الفتنة بين
المعنى القرآني والتوظيف المجتمعي
بقلم: أ.د.
عبد الرحمن شظ
تمهيد
تُستخدم كلمة "الفتنة"
بكثرة في الخطاب الديني والاجتماعي، وغالبًا ما تُقرَن بأحكام مسبقة لا تنسجم
دائمًا مع أصولها اللغوية أو دلالاتها القرآنية. من أبرز هذه التوظيفات ربط المرأة
بمفهوم الفتنة، وهو ربط يحتاج إلى مراجعة علمية موضوعية، قائمة على النص والفهم
السليم.
المعنى اللغوي
والقرآني للفتنة
أصل الفتنة في اللغة هو
"فَتَنَ"، ومنه يُقال: "فتنتُ الذهب"، أي صهرته في النار
لتمييز خالصه من زائفه، أي ذوبته بالنار وامتحنته لنعلم هل أنه خالص أو مشوب. ومن
هنا جاء المعنى المجازي الابتلاء والاختبار.
وفي القرآن الكريم،
تأتي "الفتنة" لتعبّر عن امتحان الإنسان في الدنيا وابتلائه، بينما
أن لهو الحياة كلها ابتلاء: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
الفتنة لا تنحصر في
الشر، بل تشمل الخير أيضًا، إذ قد يُبتلى الإنسان بالنعمة كما يُبتلى
بالمحنة: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُونَ}
الفتنة:
من جهة القوة لا الضعف
الفتنة تكون نتيجة فعلٍ
من طرف قوي على طرف أضعف. وقد تتمثل في المال أو الأولاد، إذ يُفتن الإنسان بهما
لما لهما من أثر على قلبه وسلوكه ويضعف أمام تعلقه بهما، فيختبر بمدى التزامه
بالحق أو انجراره وراء الهوى. قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ
وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}،
فقد يضحي الإنسان بمبادئه من أجل
أولاده، أو يُطغيه ماله فيظن أنه قادر على كل شيء: {إِنَّ الْإِنسَانَ
لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}
أما المناسبات التي
استعمل فيها الفقهاء عبارة: (الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها) فذلك هراء لا يعتد
به، لأنهم عكسوا معنى الفتنة، لأنه عندما يحتج الضعيف على القوي لا يعد ذلك فتنة.
وهكذا يصبح الإنسان
أمام اختبار دائم، هل يثبت على الصراط المستقيم؟ أم ينحرف لإرضاء شهوة أو رغبة؟
المرأة
والفتنة مراجعة للمقولات السائدة
من الأقوال الشائعة: "المرأة
فتنة". ولكن حين نرجع إلى القرآن الكريم، نجد أن لفظ
"الفتنة" بمشتقاته ورد في ستين موضعًا، ورد في ستة وثلاثين
موضعاً بصيغة الاسم، وورد في أربعة وعشرين موضعاً بصيغة الفعل، ولا واحد
منها مقترنة بالمرأة، أي ما ربط الله تعالى
الفتنة بالنساء في كتابه، فحينئذ ما مصدرها ولماذا؟
نقول إن هذا التصور جاء
من أعراف مجتمعية وتقاليد متوارثة، لا من وحي إلهي. فلا القرآن ولا السنة
الصحيحة ربطا المرأة بالفتنة بوصفها ذاتًا مولدة للشر، بل إن هذا الوصف هو جزء
من مظلومية المرأة في مجتمعاتنا، هو امتداد لتاريخ طويل من الظلم والتهميش،
حيث تُعامل على أنها كائن ناقص تابع فاقد للإرادة، وتُمارَس عليها أنماط من القهر
الذكوري باسم العرف أو الدين أو الحماية، لا كإنسان عاقل له إرادة مستقلة.
الفتنة لا تكمن في
المرأة، بل في ضعف الإنسان
صحيح أن امرأة ما قد
تُغري رجلاً بجمالها أو تصرفاتها، وقد يستجيب لها، وتُوقعه في موقف ضعف يجعله يخضع
لرغباتها، وربما يتجاوز الحدود الشرعية ويخرج عن الحق، لكن هذه حالات فردية
لا تصلح أساسًا للتعميم. فالمرأة – كالرجل – قد تكون وسيلة اختبار، لكنها ليست
الفتنة ذاتها.
الفتنة لا تكمن في
الأشياء، بل في سلوك الإنسان تجاهها.
فقد يُفتن الإنسان
بالمال، أو بالمنصب، أو بالأبناء، أو حتى بالنجاح، فيطغى أو ينحرف وهكذا نفهم أن الفتنة
_ في ضوء القرآن - أداة
امتحان، لا صفة جوهرية في شيء أو أحد.
الختام
نحتاج اليوم إلى إعادة
قراءة المفاهيم الدينية بعقل واعٍ وروح منفتحة، بعيدًا عن الموروثات التي قد
تُسيء إلى مقاصد النصوص وتكرّس الظلم.
وإذا أردنا أن ننهض كأمة، فلا بد من رفع الظلم عن
المرأة، والاعتراف بإنسانيتها الكاملة، وفهم أن "الفتنة" لا تُنسب
لذاتها، بل إلى الاختبار الذي نتعرض له جميعًا، رجالًا ونساء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين.