علاقة العقل بالثوابت من حيث الحاكمية، ودوره في الاجتهاد
بقلم: د. إسماعيل صديق عثمان
عضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
[المقال ضمن:
(الحملة العالمية للثوابت الشرعية) بإشراف لجنة الثوابت والفكر الإسلامي، تحت
شعار: "ثوابتنا أُسُسُ دينِنا ومعالمُ نهضتنا"]
الإسلام
هو دين العقل والتفكر، وقد جعل الله -عز وجل- العقل مناط تشريف وتكريم للإنسان،
كما جعل -سبحانه- العقل أيضاً مناط تكليف الإنسان، وجعله الآلية الأساسية لفهم
أحكام الشريعة، والمرشد لكيفية تنزيلها وتطبيقها في واقع الحياة لمصلحة المجتمعات؛
وقد زعم بعض الطاعنين والمتشككين أن الإسلام يلغي العقل تماماً ويخضعه للنص، وكذلك
تنامي ظهور طائفة في عصرنا هذا ممن تبنوا تأليه العقل والاكتفاء به، بعيداً عن
النص الديني في مجتمعنا الإسلامي والعربي، ففاقوا المعتزلة في منهجهم، خاصة بين
الشباب في ريعان العمر من الذين لا يعرفون لهذه الظاهرة أصلاً ولا منهجاً، وقد
انساقوا نحو ما يسمى بالعقلانية والحداثة والعصرنة، وامتلأت شبكة الإنترنت بهذه
المفاهيم المغلوطة والأفكار الهدامة.
مفهوم العقل وقيمته:
العقل
مصدر عَقَل يَعْقِل وعَقَّل فهو عاقل، وعقل الشيء: فهِمه. فهو معقول، وأصل معناه
المنع والإمساك، فالعَقل: ضدّ الحُمْق، والجمع: عُقُول، وقد روي في بعض الآثار: ما
خلق الله خَلْقًا أَكرم عليه من العقل.
وأيضاً:
أَوّلُ ما خلق الله العقلُ. ويطلق "العقل" على الحجر والنهي؛ وهو القوة
المهيأة لقبول العلم؛ وهو ما يكون به التفكير والاستدلال وتركيب التصورات؛ وهو ما
يقابل الغريزة التي لا اختيار لها؛ ويتميز به الإنسان عن سائر الحيوان.
ويشير
إليه كل خطاب شرعي رفع التكليف عن العبد لعدم أهليته العقلية الإدراكية. ويطلق
كذلك على العلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة المهيأة لقبول العلم. يقول تعالى:
{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ}،
وفي ذم الله للكفار يقول تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ
عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}. وهو مناط التكليف، فلولاه ما كان
تكليفاً ولا أمراً ولا نهياً. ويعتبر العقل أحد الكليات الخمس في الدين التي أوجب
الشارع الحكيم حفظها، فمن ضيعه فقد ضيع معلوماً من الدين بالضرورة.
كما عد الإسلام
التفكير مقصد من مقاصد الشريعة، والذي يتفكر في الآيات التي تحتوي عبارات مثل
التذكر والعقل والتدبر يظهر له ذلك جلياً.
قاعدة لا عقل مع النقل:
لا
يقصد أهل السنة والجماعة بهذه القاعدة؛ لا عقل مع النقل، أن تأخذ النقل بلا عقل
وما تقدم آنفاً يدل على أن العقل ضرورةٌ وأساس للتكليف، إذ كيف يمكن أن يفهم كلام
ربنا وكلام النبي (r) بلا
عقل؟!
والمقصود
من هذه القاعدة: هو أن لا تقدم عقلك على النقل، وتجعله حاكماً وقاضياً على النص،
كذلك قولهم: (لا اجتهاد مع النص) ليس معناه أن تأخذ النص بلا اجتهاد ولا تفكير…
وإنما معناه: لا تجتهد اجتهاداً مضاداً للنص أو تلوي عنق النص بما يخالف معناه
اللغوي، وليس المعنى: خذ النص بلا اجتهاد ولا تفكير.
علاقة العقل بالنص الشرعي من حيث الحاكمية:
دعا
القرآن الكريم إلى إعمال العقل في أكثر الأمور أهمية وخطراً، وهي الأمور الخاصة
بالتشريع، حيث توجه القرآن الكريم بآياته التشريعية إلى أصحاب العقول ليفكروا فيها
ويتدبروها، ثم يعملوا على تطبيقها، ومما يؤكد ذلك ما جاء في سورة البقرة: في قوله
تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلى الْحَوْلِ غَيْرَ
إِخْرَاجٍ فإن خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي
أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، وعندما يكون النص ثابتاً
في نسبته إلى الشرع، فإنه يجب أن يكون الحكم له على العقل، وعلى كل شيء سواه؛ وهذا
ثابت عقلاً وشرعاً، فأما شرعاً فإن نصوصاً قطعية في ثبوتها ودلالتها قد جاءت مقررة
بقطع وحسم، وبمعنى لا يقبل التأويل أن الحكم دائما لله عزّ وجلّ؛ والأدلة الشرعية
على هذه الحقيقة لا حصر لها، منها قوله تعالى: (إِنَّا
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا
أَرَاكَ اللَّهُ). وقوله عز وجل: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). وقوله جل وعلا: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). وقوله
سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ
الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ). وغير
ذلك من الآيات الكريمات.
أما
الدليل من ناحية العقل: فإن العقل إذا ما أدرك
حقيقة وحدانية الله تعالى في الربوبية والألوهية والصفات، وصِدْقَ الرسول ﷺ، أدرك مع ذلك وجوب التسليم إلى الرب
جلّ وعلا فيما يخبر عنه رسوله ﷺ ويأمر وينهى، ويجعل أحكامه فوق كل حكم أو تفكير عقلي؛ وإلا فإن القول
بحاكمية العقل في الوقت الذي يُبصر ضرورة الإقرار بالحاكمية للنص الشرعي، يوقعه في
نوع من التناقض الظاهر لا يقع فيه إلا عقل معتل أصيب بآفة يبرأ منها العقل السليم.
فالنص خطاب صاحب الشرع -وخالق العقل- والعقل يترجم للنفس المخاطبة بالتزام الشرع،
والإلزام الذي هو حقيقة الحاكمية إنما يكون لصاحب الشرع وهو صاحب الخطاب أو النص.
والالتزام الذي هو حقيقة المحكومية إنما يكون للمخاطب وهو النفس البشرية، وغريزة
العقل ووظيفتها إدراك حقيقة المطلوب المضمّن في خطاب الشرع. وللعقل مداخلات في
النصوص الشرعية، ولكن ليس من حيث الحكم على مضامينها الثابتة - فذلك محال- ولكن من
حيث فهمها وفق محدِّدات معينة، أهمها قواعد اللغة وسائر الأصول المتفق عليها في
فهم النصوص وتفسيرها.
نخلص
إلى أن العقل نعمة عظيمة من نعم الله تعالى أنعم بها على الإنسان، ويتضح حرص
القرآن الكريم على دعوة الناس إلى التعقل والتفكير من ورود كثير من الآيات التي
تتضمن مثل هذه العبارات: "أفلا يعقلون"، "أفلا يتفكرون"،
"لعلكم تتفكرون"، "لعلكم تعقلون"، كما وردت مشتقات "العقل"
في القرآن الكريم (49 مرة)، من خلال العقل يتعرّف الإنسان على أسرار خلق الله
تعالى وعظيم صنعه، وبه يتوصّل إلى تصديق الأنبياء والرسل – صلوات الله عليهم
-الذين بعثهم الله تعالى لهدايته وسعادته، وذلك أنّ الإنسان لا يستطيع أن يهتدي
إلا بالشرع والشرع لا يتبيّن إلا بالعقل. فهو مصدر تغذية الفطرة السليمة، وهو ما
جعل العديد من عقلاء العلماء يدخلون في الإسلام، حيث بهرت عقولهم الحقائق الكونية
التي نبهت إليها نصوص الوحي القرآني والنبوي ووافقتها علومهم، وهذا الأمر مشهود
عليه في عصرنا الحالي، وفي الرؤية الإسلامية ليس هناك مجال للانحراف والاستبداد
باسم العقل، ولا باسم الشرع، كما أنه لا مجال لتعطيل العقل باسم الشرع، فالعقل له
مكانة سامية في دين الله تعالى ومنزلة رفيعة، ومع ذلك فإنّ له حدوداً لا يجوز
تخطيها أو تجاوزها، والإسلام احترم العقل فيما خلق له في مجال العلوم التجريبية،
أما بالنسبة للعلوم الشرعية والغيبية فهو في حاجة دائمة للشرع المعصوم؛ لأنه تابع
له، والاجتهاد قائم إلى يوم القيامة، وهو باب فتحه الله -سبحانه- وتعالى، وهو الذي
يمنح التشريع إمكانية البقاء، ولن يخلوا زماناً من مجتهد فطريق معرفة الأحكام
الشرعية هو الاجتهاد وبدونه تعطل الشريعة وتندرس الأحكام، ولكن لا بد أن نسلم بأن
هنالك مجالات محددة للاجتهاد لا يخرج عنها فالله -سبحانه وتعالى- قد أكمل دينه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، وبذلك
يكون الدين من حيث قواعده الكلية ومبادئه العامة التي يقوم عليها، ويحتاجها الناس
قد اكتملت، ولا مجال للزيادة فيها.
أما
الجزئيات فالبعض منها مُضمن في نصوص الكتاب والسنة، والبعض ترك للاجتهاد على ضوء
نصوص الكتاب والسنة فيما لا نص فيه، ويمكن أن نلخصها في الآتي: القضايا العامة
التي سبق لأسلافنا أن اجتهدوا فيها، ولكن تعددت آراؤهم، واختلفت اجتهاداتهم وصارت
حاجة الأمة اليوم إلى انتقاء وترجيح أحد تلك الأقوال، والقضايا المستجدة في شتى
المجالات الحياتية ذات الطابع العام فيما يخص المعاملات المالية أو ما استجد من
أمور لم تكن موجودة في العصور السابقة، فعصرنا اليوم - عصر الذكاء الاصطناعي
والانفجار المعرفي - بعد الاكتشافات العلمية الكبيرة يتطلب من المجتهد في هذا
العصر أن يكون مطلعاً عليها، وعلى المشاكل التي تنجم عنها لإيجاد الحلول الإسلامية
لها.
فوظيفة
الإنسان هي الالتزام الرباني وتنفيذ موجهاته الشرعية، وذلك بالاستضاءة بنور الوحي،
وأعمال الفكر والعقل عبر آلية الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية، فلا نأخذ حكماً،
ولا نتبنى رأياً إلا من خلال النص وتحت مظلته، كما لا يجوز للإنسان أن يشرع لنفسه،
يقول تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)، حيث إن دعوة التشريع
من العبد دعوى للألوهية مع الله، والإسلام هو الاستسلام والانقياد لله -عز وجل-
بالطاعة، وما أمر به رسوله ﷺ.
وهكذا
نواجه شبهة التّنَاقض بَيْن العَقل وَالدّين، والتي تهدف إلى نشر الكفر بالله
وإخضاع دينه للعقل، وإنكار الشرائع الربّانية، والتي بنى أصحابها هذا الادّعاء
الباطل بمقولتهم المتضمنة أن العقل ميزانه صحيح يدرك الحق حقاً والباطل باطلاً
ويكشفهما، وأن الدين لا يمكن الاعتماد عليه. ثمّ أخذوا يمجدون العلم وفق مصطلحهم
الحديث والمذهب العلمي التجريبي، ويرفضون الدين رفضاً كلياً أو جزئياً، ويعزلونه
عن شؤون الحياة، ويحصرونه في الدوائر الروحية والتعبديّة. حفظ الله ديننا من:
(تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر
عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
*
د. إسماعيل صديق عثمان؛ عضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين. أستاذ العقيدة
والأديان المشارك بجامعة بحري/ السودان.