بسم
الله الرحمـن الرحيم
أهمية فقه الثوابت الشرعية، وضرورة الاتفاق عليها
بقـلم: د. أحمد الإدريسي
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاه والسلام على الرحمة المهداة والنعمة والسداة؛
سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
لقد
جمعت الشريعة بين الثوابت والمتغيرات التي تشمل أحوال الإنسان العادية، وتصرفاته
وعادات المجتمعات. والثوابت تجمع المسلمين على مشتركات أساسية، فالأمة الإسلامية
اليوم في حاجة إلى البحث عن المشتركات فيما بينها، وهي كثيرة؛ وهي أصول العقيدة
وأركان الإيمان وأركان الإسلام، وفي العدو المشترك والمصالح المشتركة، حيث إنهم
جميعاً يتفقون على أن الصهيونية والصليبية والعلمانية والإلحاد والتحلل الجنسي أشد
أعدائهم، والقضية الفلسطينية التي هم جميعا مستعدون للتضحية في سبيلها.
وهناك
مشترك آخر؛ هو أنهم يعرفون جميعا أن أعداءهم لا يفرقون فيما بينهم، ودليل ذلك ما
جاء التقرير الأخير الصادر من معهد راند الاستراتيجي الذي له دور كبير في صياغة
القرار الأمريكي، ينص على أن جميع المسلمين (التقليديين، والأصوليين،
والليبراليين، والصوفية، والشيعة والسنة….) لا يعتمد عليهم، ولا ينبغي للسياسة
الأمريكية أن تتحالف معهم إلاّ تكتيكاً للقضاء من خلالهم على جماعة أخطر. وبناء
عليه؛ فقد اقترح إسلاماً جديداً سماه؛ "الإسلام الديمقراطي المدني" الذي
يقبل بجميع القيم الغربية.
أولا: مفهوم الثوابت الشرعية.
الثوابت
هي الأحكام الإسلامية التي ثبتت بأدلة قطعية الدلالة والثبوت أو بالإجماع الصحيح
الثابت الذي مضت عليه الأمة في قرونها الثلاثة الأُوَل. وهي بمثابة المبادئ
المشتركة والمنهاج السليم والشرعية المتفق عليها عند جميع الطوائف الإسلامية
وبمنزلة الدين المشترك، ومن لم يعترف بهذه الثوابت فهو خارج عن الإسلام، وليس
الحديث هنا عن هذه الطائفة مغينة أو مذهب معيّن.
فالثوابت
والمتغيرات، كما يقول الدكتور علي محيي الدين القره داغي؛ "وصف للأحكام
والفتاوى، وليست وصفاً للنصوص الشرعية فهي باقية، ولكن الاجتهاد في نصوصها الظنية
هو الذي يمكن أن يتغير". وبيان ذلك أن نصوص الشريعة مركزة على الأسس والأركان
التي يبنى عليها هذا الدين، وعلى والقيم والأخلاق، وأسس المعاملات والتعامل مع
الناس جميعا، أما التفاصيل فتبقى لاجتهاد الإنسان، وخاصة في الأدلة الظنية، في ظل
المبادئ العامة والقواعد الكلية.
والثوابت
في الشريعة هي الإطار العام الذي يستقر عليه العمل بالدين، إنه ذلك القدر الذي
يمثل دين الإسلام وهويته وحقيقته بحيث لا يُتصور إسلام بدونه، وهذا القدر يمكن أن
نطلق عليه الثابت لأنه يلازم حالة واحدة وصورة واحدة عند الأمة في كل مكان وزمان.
والثابت
من جهة أخرى يفيد القطعي ومواضع الإجماع التي أقام الله بها الحجة بينة في كتابه
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتي لا مجال للاجتهاد فيها، كما يفيد الديمومة
والاستمرار والملازمة والبقاء، قال تعالى: "يثبت
الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة" (إبراهيم
:27). أما نطاق المتغيرات في الفتاوى والأحكام الفقهية الظنية واسع ومنضبط بقواعد
مؤطرة، وهو يشمل الاجتهادات الفقهية، ومنطقة العفو التي تقبل التغييرات بشكل واضح
حسب الاجتهادات الفقهية، مع أن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد، كما يقول إمام
الحرمين، وغيره من الأئـمة الأعلام.
ثانيا: مجالات الثوابت الشرعية.
تشمل
الثوابت النصوص القطعية، والكليات والمبادئ العامة، ومنها أساسا؛ مبادئ العدل
والإحسان والرحمة، وكرامة الإنسان، ومبدأ الحرية، وتحريم القتل بدون حق، وأكل
أموال الناس بالباطل، والاعتداء على الأعراض ونحْوها، يقول الإمام الشاطبي رحمه
الله: (إنها كلية أبدية، وضعت عليها الدنيا، وبها قامت مصالحها في الخلق حسبما
بيّـن ذلك الاستقراء، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا، فذلك الحكم الكلي باق إلى
أن يرث الله الأرض ومن عليها). فالثوابت، بشكل عام، تشمل ما يلي:
- أركان
الإيمان الستة.
- أركان
الإسلام الخمسة.
- القيم
والأخلاق الثابتة، والأحكام والأسس العامة
لأحكام الأسرة في الإسلام، والمبادئ العامة للمعاملات، وأحكام الجهاد، والعلاقات
الدولية، والقضاء الإنسانية.
- الأحكام
الشرعية؛ حيث إن كل حكم من أحكام الإسلام في جميع مجالات الحياة
إذا ثبت بدليل قطعي الثبوت والدلالة أو بإجماع الأمة إجماعاً صحيحاً قائماً على
الدليل، وطبعا يُستثنى من ذلك ما كان من قبيل الضرورات التي تبيح المحظورات.
ثالثا: فقه الثوابت الشرعية، وضرورة الاتفاق عليها.
يمكن
الاتفاق على الثوابت لكن نختلف في الفروع والوسائل وغيرها مما هو مبني على أصول
وفي الدائرة التي أباح الله الاجتهاد فيها. وفي ذلك رحمة وسعة وتيسير على الأمة،
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع
هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد الخروج عنها ومن دخل فيها كان من
أهل الإسلام المحض، وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما
تنوعت فيه الأنبياء... فالمذاهب والطرائق والسياسيات للعلماء والمشايخ والأمراء
إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء ليكونوا متمسكين بالملة والدين الجامع
واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام
هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع... وهم مثابون).
وعلى
ضوء ذلك تجتمع الأمة الإسلامية على هذه الثوابت وتجعلها قاعدة لانطلاقتها وأساسا
متينا لتكوين علاقاتها والتعاون على تحقيق المصالح المشتركة. لذاك يجب على الأمة
أن تعيَ جيدا فقه الثوابت الشرعية وضبطها وتقننها، وتتجلى أهمية فقه الثوابت
الشرعية فيما يلي:
1- معرفة ما يمكن الاجتهاد فيه وهو النصوص الظنية، أو ما ليس فيه نص صحيح خاص،
وهو ما يُطلق عليه؛ "منطقة العفو".
2- الاعتراف بكل خلاف ما دام أنه صادر عن اجتهاد في المتغيرات من أهله وفي
محله، وحينئذ يصبح أمر مشروعا، يجب احترامه وأخذه بعين الاعتبار.
3- الاختلاف في المتغيرات اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد، بل هو رحمة وسعة، قال
عمر بن تعبد العزيز: "ما أحب أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يختلفوا".
4- عدم الإنكار على الآخر في المسائل الخلافية الاجتهادية.
5- الوقوف في مساحة مشتركة من الثوابت يتفق عليها الجميع يدفع إلى الاتفاق
على مواجهة التحديات التي تواجه وحدة الأمة الاسلامية مثل تحدي الإلحاد والعلمانية
وتحدي الغزو الثقافي والفكري، ودعاوى المثلية، وغيرها مما يُهدد الأمة في شبابها، وأخلاقها،
وقيمها، وهويتها.
خاتمة:
إن
معرفة الثوابت المشتركة بين الدول والشعوب والطوائف الإسلامية من شأنه أن يقرب
فيما بينها ويؤدي إلى تحقيق التعارف الإسلامي، والتعاون والتكامل والقبول
المتبادل، والاجتماع على ما يجمع من الثوابت والمواقف وعدم إثارة الاختلافات وترك
الحزبية والمذهبية الضيقة إلى ساحة الإسلام الواسعة والرحبة.
فالإنسان
ثابت في حقيقته وجوهره وأصل عقله وروحه ونفسه ومكوناته وضرورياته وحاجاته العامة
إلى المأكل والملبس والمشرب، ولكن الإنسان متغير في معارفه، وفي إمكاناته للتسخير
وفي علومه وتفكيره، وفي تقاليده وأعرافه.
فإذا
استطاع الإنسان أن يجمع بين الاستفادة من النقل والعقل، وبين الثوابت والمتغيرات،
فإنه سيُحقق التآلف والمحبة والتقارب الحقيقي، وسيتعاون ويتحد فيما تم الإجماع
عليه من الثوابت، وستضمن الأمة الإسلامية وحدتها القائمة على أسس ثابتة ودعائم
قوية، ويمكن أن تتفاعل ضمنها متغيرات تجعل واقع الأمة يحافظ على هويته ويساير
العصر في إطار الشرع الحكيم.
والحمد
لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.