البحث

التفاصيل

نحو إحياء الروح برباط المساجد

الرابط المختصر :

نحو إحياء الروح برباط المساجد

كتبه: د. مسعود صبري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

في عالم يتجه نحو أن تكون كل الفعاليات والاجتماعات واللقاءات والمكالمات بين الأفراد والمؤسسات، ما أحوجنا إلى رباط المساجد! وأن يبتعد المسلم قليلاً عن زخم عالم الإلكترونيات والتواصل خلف الشاشات، وأن يرابط في بيت الله تعالى، رباطاً ينعش الروح ويغذيها ببركات البقاء في بيت الله تعالى والمكث فيه، وحضور مجتمع تجتمع فيه الملائكة، تنظر إلى عباد الله تعالى، تلتمس هؤلاء المرابطين في بيوت الرحمن، لترفع تقريرها إلى رب العزة بسجل فيه أسماء أولئك المرابطين في بيت الله تعالى، محققاً مقصداً من المقاصد الجزئية للشريعة وهو رباط المساجد.

ويسوق لنا الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه حديث «رباط المساجد»، الذي يبين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن رباط المساجد يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» (مالك في الموطأ).

بل انتظار الصلاة أفضل الرباط، كما ورد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الرباط ‌انتظار ‌الصلاة، ولزوم مجالس الذكر» (مسند أبي داود الطيالسي).

وهذا الحديث يوضح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مدى القوة الإيمانية والروحانية للمسلم إذا ارتبط بالمسجد ذهاباً وجلوساً ومعايشة في رحاب ملائكة الله في بيت الله، وكأن المسجد عيادة روحية للمسلم لا يستغني عنها، فلا بد من زيارتها، ليست زيارة سريعة خاطفة لأداء واجب، وإنما زيارة محب، يتوق قلبه لبيت ربه، فهو يحب أن يكون ضيفاً عند مولاه في بيته، فتراه لشدة تعلقه وحبه لمولاه يطيل البقاء في بيته، منتظراً الصلاة بعد الصلاة، وهو أحد مفاهيم الرباط الذي أشار إليه الحديث.

ورباط المساجد يتخاصم فيه الملأ الأعلى كيف يكتبونه لعظم ثوابه، وأن من حافظ عليه عاش بخير ومات بخير، كما ورد في حديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لرب العزة سبحانه: «فقال: يا محمد، قلت: لبيك ربي وسعديك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: يا رب في الكفارات، المشي على الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء على المكاره وانتظار الصلاة بعد الصلاة، من حافظ عليهم: عاش بخير، ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (التوحيد لابن خزيمة).

ويحث النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على رباط المساجد، ويبين لهم عظيم فضله في حديث آخر، حيث ينازل جوائز أخرى، منها: أن يكون محفوفاً بملائكة الرحمن، التي تحوط العبد في رباطه ببيت الله وجلوسه به، حيث تدعو له الملائكة بالرحمة والمغفرة، ثم هو ينال ثواب الصلاة التي هي أعظم عبادة ما دام في مصلاه، حتى وإن لم يصل، فعن أبي هريرة يقول: «إذا صلى أحدكم، ثم جلس في مصلاه، لم تزل الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فإن قام من مصلاه، فجلس في المسجد ينتظر الصلاة، لم يزل في صلاة حتى يصلي».

بل كان رباط المساجد حاضراً في فهم سلف هذه الأمة، حتى إن التابعي أبا بكر بن عبدالرحمن، وهو أحد الفقهاء السبعة يرى أن ثواب رباط المساجد مثل رباط المجاهد في سبيل الله، فعن مالك، عن سمي مولى أبي بكر، أن أبا بكر بن عبدالرحمن كان يقول: «من غدا أو راح إلى المسجد، لا يريد غيره، ليتعلم خيراً أو ليعلمه، ثم رجع إلى بيته، كان كالمجاهد في سبيل الله، رجع غانماً».

بل جعل رباط المساجد رهبانية هذه الأمة، كما روي، قيل: يا رسول الله، ائذن لنا في الترهب، فقال: «إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد ‌انتظار ‌الصلاة» (ابن المبارك في الزهد).

والرهبانية مصطلح يشير إلى القوة الروحية التي تسمو بها النفس، ويرزق بها المرء الطمأنينة وراحة البال.

وقد كان رباط المساجد سُنة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظبون عليها، ويحث بعضهم بعضاً عليها، بل يتعاونون فيها، ويقيمونها في مساجدهم، حتى رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منهم، فشكر صنيعهم، وأخبرهم برضا الله عن ذلك الفعل العظيم.

فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من بعض حجره، فوجد سبعة من أصحابه من العرب والموالي في مسجده، فسألهم عن سبب جلوسهم، فقال: ننتظر الصلاة، فنكت بإصبعه على الأرض، ثم نكس ساعة، ثم رفع رأسه، ثم قال: «هل تدرون ما قال ربكم عز وجل؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «إنه يقول: من صلى الصلاة لوقتها، وأقام حدها، كان له به عليَّ عهد أدخله به الجنة، ومن لم يصل الصلاة لوقتها، ولم يقم حدها، لم يكن له عندي عهد، إن شئت أدخلته النار، وإن شئت أدخلته الجنة» (مسند ابن أبي شيبة).

بل ورد عن بعض الصحابة أن قرآناً نزل في انتظار الصلاة، فعن أنس بن مالك «أن هذه الآية: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (السجدة: 16) نزلت في ‌انتظار ‌الصلاة التي تدعى العتمة» (العلل الكبير للترمذي).

وانتظار الصلاة سبب نزول آية أخرى، كما ورد عن داود بن صالح قال، قال لي أبو سلمة بن عبدالرحمن: يا ابن أخي، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية: (اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ) (آل عمران: 200)؟ قال قلت: لا، قال: إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يُرَابَطُ فيه، ولكنه ‌انتظار ‌الصلاة خلف الصلاة» (تفسير الطبري).

فوائد نفسية من رباط المساجد

إن المتأمل للنصوص التي تتناول رباط المساجد والحث عليه؛ ليدرك أنها ليست مجرد عبادة عادية، أو مجرد بقاء في مكان هادئ، إنه غذاء الروح كي تتقوى على متاعب الحياة ومشاغلها، وكيفية التغلب على القوى السلبية التي تصيب الروح، فلا تشيخ، بل تبقى فتية قادرة على التغلب على الصعاب.

كما أن رباط المساجد إيواء إلى الله تعالى في بيته، وضيافة في كنف الرحمن؛ مما يكسب النفس السكينة والطمأنينة، وما لذلك من أثر إيجابي على نفس المؤمن.

وفي رباط المساجد إحياء لتعمير المساجد وحمايتها من العزوف الذي نشهده اليوم في ظل تلك الحضارة المادية الطاغية، وهذا المعنى هو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ {36}‏ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور).

خطوات نحن إحياء رباط المساجد

من الواجب على الأمة أفراداً ومجموعات ومسؤولين أن يحيوا في الأمة رباط المساجد، من خلال عدد من الوسائل، من أهمها:

- تخصيص خطب جمعة وعدة دروس لتذكير الأمة برباط المساجد وفضله.

- البرامج الإذاعية والفضائية التي تحث الأمة على رباط المساجد.

- نشر مقاطع الفيديو وعمل البوستات التي تحث على رباط المساجد.

- تهيئة المساجد بما يشعر المصلين بالراحة وتحبب إليهم رباط المساجد.

- ذهاب المصلين قبل الصلوات بمدة كافية، وبقاؤكم بعدها بمدة كافية.

- تخصيص مدة للبقاء في المساجد بما ورد في السنن، مثل البقاء بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس، وكذلك: البقاء في المسجد ما بين المغرب والعشاء.

- تشجيع الدروس المسجدية مما يسمح ببقاء الناس في المساجد.

- تعاهد الأفراد بالذهاب إلى المسجد وتواجدهم فيه جماعات؛ حتى يشجع بعضهم بعضاً على إحياء رباط المساجد.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
مؤسسات إسلامية ومساجد بريطانية تطالب الحكومة بوقف تسليح الاحتلال والاعتراف بدولة فلسطين
السابق
الصلابي يستقبل الأكاديمي التركي عبدالقادر شان: نقاش علمي وسياسي حول قضايا الأمة وترجمة المؤلفات

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع