مشروع بناء الدولة
الحديثة (3): وجوب الدستور الرباني وشموليته
بقلم: د. ملاطف الخولاني
عضو الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين
**
اقرأ: مشروع بناء الدولة الحديثة (1)
اقرأ: مشروع بناء الدولة الحديثة (2)
**
إن الدستور والقانون والحكم كله لله، فهو الخالق البديع، وهو المشرع
المعبود، فقد خلق كل شيء وقدرة وقننه وكتبه قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف
سنة؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ
الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ .
فقد سن لهذا الكون السنن، وقنن لهذه الحياة القوانين، وأنزل لهذه البشرية
دستوراً ربانياً، وهو أعظم دستور، فقد كتبه في اللوح المحفوظ، وجعله أول وأعلى
دستور، وعلى رأس اللوح المحفوظ, قال تعالى مبيناً مكانة القرآن الكريم من بين بقية
دساتير وقوانين وسنن ومقادير الوجود: ﴿حمٓ (1) وَٱلۡكِتَٰبِ
ٱلۡمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ
تَعۡقِلُونَ (3) وَإِنَّهُۥ فِيٓ أُمِّ ٱلۡكِتَٰبِ لَدَيۡنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
(4) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ (5)﴾ [الزخرف: 1-5]، أي أن
القرآن مكتوب في أم الكتاب، لعلي حكيم أي في أول وأعلى سطر فيها مكتوب محكم مرتب
من الفاتحة الى الناس، كتصدر الفاتحة في القرآن على بقية السور، والدستور الرباني
هو المرجع الثابت الذي لا يتغير أو يتبدل، والمعصوم الصالح لكل زمان ومكان،
والمناسب للبشرية من الفرد والأسرة الى المجتمع والجماعة وكافة الأمة، وما يمثلها
من الدولة ومؤسساتها الدستورية، وهذا لا يمكن لأي دستور أو قانون وضعي أن يتناول
كل هذه الأمور والمستويات، على هذا المقام القيّم، وعلى اختلاف وتقلبات الدهور
والأزمان والأمصار والأمم، فهذه الخصوصيات والميزات الربانية خواص لا تليق الا أن
تكون من لدن حكيم خبير، قال تعالى متفرداً
بالحاكمية العقدية، ولا يمكن إلا أن تكون خاصة به خالصة له مجرداً عن كل ما سواه: (وَهُوَ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ
ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأُولَىٰ وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَيۡهِ
تُرۡجَعُونَ) [القصص: 70] فهو الذي افترض الحكم كما افترض
العقيدة، فإن الذي يؤمن بأن الله إله واحد لا اله إلا الله موحداً؛ فهو يؤمن بأن
لا سلطان أوحكم أو تشريع الا لله، فتجد أن في الدستور الرباني آية تنص على
التوحيد، والأخرى تنص على الحاكمية أو في نفس الموضع، ومن وجهة أخرى تجد أن الحكم
بحد ذاته تكامل عقدي أي لا يكتمل التوحيد إلا به، فقد جاء في الأثر: (أنه لا يكتمل
توحيد الله حتى لا يكون سلطان إلا سلطان الله في الارض) وأنه لا يكتمل إيمان
المؤمن إلا بكل ما جاء عن الله ورسوله جملة وتفصيلا، قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا
قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا) [النساء:
65] وهو كذلك سبحانه متفرداً متوحداً بالحاكمية التعبدية، فالحكم بحد ذاته
طاعة وعبادة، فلا يتعبد بالحكم إلا للمعبود وحده، وليس لأحدٍ سواه, قال تعالى: (مَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ أَسۡمَآءٗ
سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن
سُلۡطَٰنٍۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ
إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا
يَعۡلَمُونَ) [يوسف: 40-41] وقد
جاء في السنن الكبرى للبيهقي ، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى
الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، قال: فسمعته يقول: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون
الله"، قال، قلت: يا رسول الله، إنهم لم يكونوا يعبدونهم، قال: أجل، ولكن
يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه، فتلك
عبادتهم لهم.
وفي الحقيقة نجد أن الآيتين لهما معنيان عظيمان، فتجد أن الله ذكر في
الآية الأولى العقيدة، وهو (الله لا اله إلا هو) وذكر الحكم (وله الحكم)، والآية
الثانية ذكر الحكم (إن الحكم الا لله)، وذكر العبادة (أمر الا تعبدوا الا إياه).
المعنى الأول: إن الله جمع بين العقيدة والحكم في آية وجمع بين العبادة والحكم في آية أي
أن فريضة العقيدة والعبادة كفريضة الحكم إيماناً وعملا فهما متساويان لا فرق
بينهما، فكما أوجب العقيدة والعبادة إيماناً وعملا، أوجب الحاكمية إيماناً وعملا،
ولكن لكل منهما معنى مستقل عن الآخر.
المعنى الثاني: إن الحكم هو بحد ذاته تكامل عقدي ولا يكتمل التوحيد إلا به، فالله لا إله
إلا هو، ولا سلطان ولا حاكم ولا مشرع إلا هو، وهذه حقيقة التوحيد، والآية الثانية
أن الحكم بحد ذاته عبادة، إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه، أي أمر أن
لا تحتكموا إلا الى حكمه وشرعه ودستوره، ولا تحكموا إلا بحكمه وشرعه ودستوره وهذه
حقيقة العبودية؛ والمعنى الثاني للآيتين هو الأصوب، والله أعلم، وهذا المعنى ينطبق
على بقية الآيات المماثلة.
خلاصة: وهذا التفصيل يراعي الأصل العقدي، والفرع العملي، لأن العبادة كل
العبادة بما فيها الحاكمية فرع لأصل العقيدة ومكملة لها ولا يوحد الله حق التوحيد
في الأرض إلا أن لا يكون سلطان لأحد إلا سلطان الله.
كما أن الله سبحانه وتعالى مصدر التشريع، وأن في شريعته جميع مبادئ وأحكام
الحاكمية؛ قال تعالى: (وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ
ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ
وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا
تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا
مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ) [المائدة: 48].
وأن الله تبارك وتعالى قد أمر نبيه وأمته من
بعده بوجوب الحكم بما أنزل الله؛ محذراً الميل عنه واتباع أهواء المغرضين من
الكافرين والمنافقين وأصحاب النفوس الضعيفة، فإن تلك فتنة الجهلة التي لا تحمد
عقباها؛ قال تعالى: (وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم
بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن
يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ
فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ
كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ) [المائدة: 49].
فمن باين الحكم الرباني وتركه ومال إلى غيره حكماً وتحكيما، فهو من ضمن
أحد الأصناف الثلاثة الفاسقين أو الظالمين أو الكافرين، قال تعالى: (وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ
فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ) [المائدة:
47]، (وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ
ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ) [المائدة:
45]، (وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ
ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ)
[المائدة: 44-45]، وقد تستوجب كلها عليه، على المستوى العقدي أو
العملي أي فسوق وظلم وكفر عملي أو عقدي حسب ما يقتضيه حاله وما هو عليه، لما في
ذلك من الجمع بين معاني الغلو والتطرف والإفراط والتفريط والانحراف عن دستوره
والرضى بالدساتير والقوانين الوضعية والانتكاسة عن تطبيقه وإقامته, بل وإلقاء
الشبهات والتهم تهوينا من مكانته وعظمته, والتشكيك فيه واتباع الأهواء والزيغ عنه،
والاستهزاء به وعناده ومحاربته, ولما سيلحق بالدولة والأمة من الظلم والفساد
والقهر والابتزاز والكبت والتجويع والفقر والفاقة والخوف والمرض والجهل، فتدخل في
حال التخبط والاضطراب، فتتسع رقعة الخلاف والتنازع والفرقة والشتات حتى تفقد
مصالحها ووحدتها وقوتها وسلطتها ومكانتها، فتختل موازينها وتتهاوى أركانها وتنحدر
توجهاتها وأهدافها وخططها، ولا يعقب ذلك إلا السقوط المدوي والوقوع المزلزل، ولما
في ذلك من مجانبة الحق والصواب والعدل والاعتدال والوسطية والإنصاف والحكمة
والرحمة والرشد والكمال المتضمن في كتاب الله وسنته؛ فالحكم بما انزل الله وتطبيق دستوره والاحتكام
الى شريعته والتمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، هو الضمان الأعظم لسعادة
الأمة ورفعتها وعزها ومجدها وسلطانها وسطوتها واستمرارها وأمنها واستقرارها، لأن
حكمه أفضل وأعظم وأجمل وأحسن حكم أنزله بحكمة متناهية ورحمة شاملة وخير دائم، ولن
يعتقد الاعتقاد الجازم بذلك ولا يرضى بحكمٍ غيره إلا الموقنون، لما يروا فيه من
كمال العدل وأسرار المقاصد ورشد الغايات واستمرارية الصلاح وروعة الحكمة وثقة
المصدر قال تعالى: (أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ
يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ) [المائدة:
47].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.