البحث

التفاصيل

ثوابتنا اليقينية ومناهج الشك

الرابط المختصر :

ثوابتنا اليقينية ومناهج الشك

بقلم: د. إسماعيل صديق عثمان

عضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

المتأمل في بعض نصوص المؤلفات في العالم الإسلامي المعاصر يجد أن هناك مَّن تأثر  بالشك ومناهجه سواء كان شكاً مطلقاً أم منهجيّاً، وتلك النصوص تدل على تأثر نسبي بمناهج الشك في أوساط المثقفين والكتاب المسلمين مما يحتم ضرورة الوقوف على معاني الشك والمزاعم التشكيكية التي تجعل من الإنسان مصدراً للمعرفة يعتمد عليه بل وتجعل منه مقياس كل شيء، وقد نادى بعضهم باخضاع القرآن الكريم للنقد والمراجعة، والقرآن الكريم وقف وقفات كثيرة مع الشكاك الذين يريدون من وراء شكهم الطعن فيه، وأولى هذا الأمر أهمية خاصة لضرره المؤدي لتعطيل المفهوم العام للحياة يقول تعالى: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، فالإلحاد جحود في حقيقته ! وقد ثبت علمياً أن المنكر والملحد يعرف في قرارة نفسه الله ويؤمن بوجوده، بالرغم من أن أهل الجحود والاستكبار يصرُّون على إدخال البديهيات والضروريات العقلية فيما يجب إخضاعه للشك والنظر العقلي والبحث من أمور الظن والاحتمال، ويؤكد لنا القرآن أن هناك أموراً غيبية لا تدخل ضمن علومنا التجريبية، وأنه لابد لنا من الاستعانة بخبر السماء وأن العلم ليس بعيداً عن الإنسان حتى يحتاج هذه الرحلة المعقدة من الشك. وإنما هو اكتشاف ذاتي لفطرة الإنسان فالحقيقة اليقينية داخل الإنسان وليس خارجه.

ماهية الشك ومفهومه:

 الشك نقيض اليقين وجمعه شكوك، وهو التردد بين شيئين سواء استوى طرفاه أو رجع أحدهما على الآخر وعرفه الجرجاني قائلا: (هو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك)، أما اليقين فهو استقرار العلم وثباته، واليقين عكس الشك ومن تيقن بالأمر لم تساوره الشكوك فيه. ويأتي مفهوم اليقين في الاصطلاح بمعنى: حصول العلم الضروري المفيد للتطابق بين الاعتقاد والحقيقة الخارجيّة للشيء المُعتقد، وأنّ اليقين بالشيء في الواقع الخارجي وفي ذات العارف يكون في حقيقته على الجزم والثبات.

   ولما كان البحث العلمي هو الطريق الواضحة للوصول إلى العلم وإدراك الأشياء على ما هي عليه في الواقع إدراكًا جازمًا، لذا نظر علماء المسلمين في الآيات القرآنية التي تَـحُضُّهم حضَّا على ألا يَقبلوا دعوَى من غير حجَّة ولا برهان وأن لا يتخبطوا فيما ليس لهم به علم، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾، وقوله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، وأيضا: ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم منْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾، فكانت القاعدةً العامَّةً للتَّحقُّق مِن صحَّة الدَّعاوَى والأخبار، هي: ( إن كنت ناقلًا فالصحَّة أو كنت مُدَّعيًا فالدليل)، ولم يكن بحث المسلمين عن الحقيقة استكشافًا مجرَّدًا للمعرفةِ، وحُبًّا في الاطلاع فقط، بل كان هدفه الوقوف على الحقيقة، والسلامة من الظنون والأوهام، قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾، والمعروف بين الناس أن من ينطلق في المعرفة من اليقين أولى بالإتباع ممَّن يجعل الشك طريقاً لليقين ثم يبرهن على المعرفة بعد ذلك، ذلك أنّ اليقين عنده مصطلح معياري تخضع له سائر المعارف أصولاً وفروعاً، فهو فيصل التفرقة بين المعرفة المقبولة والمرفوضة، فما لم يؤسس من المعارف على اليقين؛ فلا وزن له ولا اعتداد به، وما بُني من المعارف على اليقين عليه يدور الحكم القطعيّ وجوداً وعدماً. يقول ابن حزم: ( ولكن الله تعالى لم يجعل لغير اليقين حكماً)، ويقول: (وصح أن لا حكم إلا لليقين وحده(.

الشك وعلاقته بالوصول لليقين العقدي:

والهدف هنا من الشك ليس المعرفة النظرية، وإنما تأسيس إيمان يقيني بالله، إذ يرى بعض المعتزلة أن الأوجب هو الشك، وهناك من يرى منهم أنه النظر والنظر يجب أن يسبقه شك.

أما شيخ الإسلام ابن تيمية فيرى أن للفطرة أثراً أساسياً في معرفة الله، ثم من حصل له الشك ولم يكن من سبيل لدفعه سوى النظر؛ يلزمه النظر كما يرى الشك أمراً عارضاً علاجه النظر وفـي ذلك يوافـق القاضي عبد الجبار (شيخ المعتزلة مع تحذيره من عواقب إتاحة النظر للعامة لصعوبة طرقه، وما قد يثيره في نفوس جمهور الخلق).

فالشك تتعدد صوره ومجالاته من كلّي إلى جزئي، ومن مطلق إلى نسبي، فيصل في قمته إلى درجة إنكار الحقائق الموضوعية، وفي أدنى منازله يكون شكاً في وسيلة من وسائل تحصيل المعرفة أو أداة من أدواتها.

موقف القرآن الكريم من الشك:

المتأمل في القرآن الكريم يلاحظ كثرة الآيات التي تنسف مذهب الشك وترد عليه وتحاور الشكاك، بل وتعيب عليهم وتشنع انتحال هذا المذهب الباطل.

وهي آيات كثيرة جداً ويمكن تقسيمها بحسب موضوعاتها التي تناولتها إلى قسمين:

أولاً: الآيات التي جعلت الشك من صفات الكفار وبينت بطلان مذهب الشك وردت عليه بالحجة، ومنها ما تناول الشك في الرسل وفي الآخرة والبعث: يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ وجاء عقب هذه الآية بيان بطلان ما هم عليه من عبادة ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾، مما يعني أن ما هم فيه من الشك في عبادة الله تعالى باطل يقيناً .. وكذلك في قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ .. كما عاب الله عز وجل على المشركين شكهم في ربوبيته وإلوهيته واتهمهم باللعب فقال سبحانه: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾، قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: قد جاءهم الحق اليقين وهم يشكون فيه ويمترون ولا يصدقون به. ونجد ذلك أيضاً في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ .. ثم: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ﴾، وقد جاء في الآيات الثلاث السابقة تأكيد ما هم فيه من الشك بوصف أنه مريب، ووصف الشك بالمريب تقوية لمعنى الشك، والشك المريب أقوى من الشك العادي وأشده إظلاماً.

ثانياً: ما يتعلق بنفي الشك في اليقينيات، ومنها قول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، فالآية تنفي الشك في القرآن الكريم  ثم تحداهم الله تعالى أن يأتوا بسورة مثل سور القرآن إن كانوا في شك منه، ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ .. وقال تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ .. ومما يندرج تحت هذا القسم أيضا نفي الشك في وقوع البعث والجزاء، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، وقوله عزوجل: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ .. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ .. وقوله تعالى: ﴿قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

وقد علق ابن حزم (رحمه الله) على من انتحلوا مذهب الشك فقال: والله ما سمع سامع قط بأدخل في الكفر من قول من أوجب الشك في الله تعالى وفي صحة النبوة فرضاً على كل متعلم لا نجاة له إلا به، ولا دين لأحد دونه، وإن اعتقاد صحة التوحيد لله تعالى وصحة النبوة باطل لا يحل، فحصل من كلامهم أن من لم يشك في الله تعالى ولا في صحة النبوة فهو كافر، ومن شك فيهما فهو محسن مؤد ما وجب عليه، وهذه فضيحة وحماقة، اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول، والكتاب والسنة يشيران إلى أن مذهب الشك باطل ومن الأدلة على ذلك ،قول الله تعالى لموسى عليه السلام لما كلمه ﴿إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾، فعلمه كلمة التوحيد، وأمره بعبادته، ولم يأمره بالشك ولا بالنظر ولا بالقصد إليه، وهذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فالأحاديث والآيات كثيرة وتدل على أن التوحيد هو أول واجب على العباد خلافاً لمن زعم أن أول واجب معرفة الله بالنظر، أو القصد إلى النظر، أو الشك.

موقف الفكر الإسلامي من الشك المطلق والتصور الإسلامي للحقائق:

الشكاك الأوائل وصل بهم أمر الشك المعرفي إلى حد إنكار الوجود نفسه، والأشياء وإمكان إدراك طبيعة ذوات الأشياء، والإسلام حارب هذا التصور ووقف مناهضاً له ، وبالتالي فالحديث عن موقف الإسلام من الشك المطلق، هو حديث عن الموقف من إمكان المعرفة ذاتها لطبيعة العلاقة الجدلية بين الشك المطلق وإمكان المعرفة، أو لكونهما على النقيض فإثبات أحدهما نفي للآخر - الوجود وإمكان معرفته - ، فهذا الخلق الرباني موجود من حولنا أحاط به إدراكنا أو لم يحط، ووضح القرآن العلاقة الجدلية بين الشك واليقين، والعلم والظن في مقابلة رائعة تضمنتها آية واحدة في قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا.                       

حكم الشك في المسائل الإعتقادية وما ثبت بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة:

الاعتقاديون في المصطلحات المعاصرة هم من ناصروا المذهبين العقلي والتجريبي تحديداً، ويقابلهم أنصار المذهب النقدي،ولعل أهم أوجه الخلاف بينهما أن الإعتقاديين ينطلقون من نقطة يعتقدون أنها بديهية لا تحتاج إلى برهان، بينما النقديين يخضعون كل شيء في المعرفة للنقد، وليس لديهم ما يجنبونه النقاش أما بالنسبة للمعرفة عند الإعتقاديين فالمعرفة عندهم ممكنة دون حدٍّ معين؛ بعكس النقديين الذين يذهبون إلى أن المعرفة اليقينية حدٌّ تقف عنده، قال صل الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس ) وقد ذكر أهل العلم أن من القواعد الفقهية الكبرى، قاعدة (اليقين لا يزول بالشك). وهذه القاعدة أصل شرعي عظيم، تعد من أكثر القواعد تطبيقاً كما قال السيوطي: (أعلم أن هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه، والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر.

ولإطلاق الحكم على من شك في المسائل الإعتقادية وما ثبت بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يمكن جعل هذا الأمر على مراتب:

أولها: من رد شيئا ولكنه متصور للرسالة والدين ولم تبلغه الدعوة، فهذا بلا شك يدخل في عموم من لم تبلغه الرسالة والحجة والدين وفيه يقول ابن تيمية: والكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة.

وثانيها: أن يكون الرَاد لما ثبت بالكتاب والسنة معرضاً وهو متصور لهما ولكنه اعترض، فهذا كفر ولا شك في ذلك يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ [النساء: 61].. وقال تعالى: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ [الأحقاف: 3].

ثالثها: أن يكون الراد لما ثبت بالكتاب والسنة متصوراً لهما ولكنه معرضا عنها وهو في شك، فهذا كفر يقيناً قال تعالى :( إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ). رابعها: أن يكون الراد لما ثبت بالكتاب والسنة مؤمناً يبعضها وكافراً ببعضها وهذا كفر أيضا قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾.

حكم من شك في المعلوم من الدين بالضرورة:

بإمكاننا القول عموماً بأن من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة؛ أوشك في شيء منه فهو كافر بلا نزاع عند المسلمين، كمن أنكر صفات الله عز وجل أو أنكر الملائكة، أو نفى علم الله وقدرته ومشيئته، أو وصف أحد الأنبياء بالكذب أو بما لا يليق، أو أنكر معاد الأبدان والبعث وخلاف ذلك من المعلومات الحتمية الواردة بالتواتر. والغزالي يرد حجة الشكّاك بعدم الاعتراف بقبول النظر العقلي بأن قبولهم بمناظرة الغير هو نفسه اعترافاً ضمنياً بقبول النظر العقلي. فالشاك عاجز عن إثبات مذهبه، لأنه إن قدم حججاً في النفي والإثبات، فقد أقر بالعلم اليقيني، وإن اكتفى بإثباتها جزافاً ردت عليه جزافاً بغير برهان. وهو في مذهبه إما أنه متيقن من صحة شكه (فذلك من اليقين)، وإما أنه راجح لديه، فالترجيح يحتاج إلى مرجح ودليل، وإما أنه غير متيقن ولا مرجح، وحينها لا يصح وصفه بالمذهبية إذ هو عاجز مقر بعجزه عن إثبات مذهبه.

إبطال مذاهب الشك في القرآن الكريم:

الناظر في القرآن الكريم يجد آيات كثيرة تنسف مذهب الشك، وتعيب على الشُكاك انتحال هذا المذهب الفاسد، والآيات التي جاء فيها نسف مذاهب الشك كثيرة جداً، فالله تعالى جعل الشك من صفات الكفار، وحكاه عنهم في معرض الذم لهم، وبين بطلان مذهبهم فيه، ومن ذلك شكهم في دعوات الرسل عليهم أفضل الصلوات وأتم التسليم إلى عبادة الله تعالى وحده، وترك ما يعبدون من الأوثان، والآيات في ذلك كثيرة، مما يعني أن ما هم فيه من الشك في عبادة الله تعالى باطل يقيناً، كما أن ما هم فيه من عبادة الأوثان لا شك في بطلانه. وهناك نفي الشك في اليقينيات التي يجب الإيمان بها، ومن ذلك: نفي الشك عن القرآن وما جاء فيه من الهدى، كما في قول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾. فمذهب الشك باطل، وما بني على باطل فهو باطل، وطرائق إثبات الحقائق الغيبية عند المتكلمين بالنظر أو القصد إلى النظر غير صحيحة، والكتاب والسنة على خلافها، ومن الأدلة على ذلك: أن الرسل عليهم السلام دعوا أقوامهم إلى التوحيد، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾، ولم يدعوا أقوامهم ابتداء إلى النظر أو القصد إليه.

ومما سبق، فلا شك أنّ للشكّ آثاراً فكرية خطيرة قد تخرج المسلم من الملة وتدخله في الكفر، وتجعل الإنسان في ريبه يتردّد ويحتار فهو مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، طافئ بشكه لنور إيمانه؛ لا يعرف لليقين والطمأنينة سبيلاً، تعبر عنه وعن حاله الآية الكريمة: (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ الْمُبِينُ).

أمّا المتمسك باليقين؛ ففي طمأنينة تضفي على نفسه وعلى روحه سعادة غامرة وسكينة، ويأنس بربه ويسلِّم الأمر إليه، ويعود في أموره كلها إلى الوحي المنزّل والشرع المطهّر، ولا شك أن من شك وضربته الحيرة ليس له دواء كافٍ شافٍ إلا في اليقين. فباليقين ينتظم للعبد أمران: (علم القلب، وعمل القلب) كما قال ابن تيمية.

يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (*) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 4-5].

فالمعرفة في نظر القرآن تتعلق بإثبات الحقائق والأشياء والتعامل معها. ومن طرق هذه المعرفة الوحي والإحساس والعقل. والطريق المؤدية للمعرفة اليقينيّة؛ هي النقل المتواتر الذي لا يقع بين المسلمين خلاف في وجوب الإذعان له، وفيه يقول ابن حزم: (حتى صار منقولاً نقل كافة: يقطع العذر، ويرفع الشك، ويوقع اليقين، ويوجب العلم الضروري).

ثم ان القرآن لا يمنع من المنهج الذي يزيد الإيمان ويرفع درجة اليقين، وذلك بتمحيص أدوات المعرفة بالشك فيها. ونجد ذلك فيما ذكره القرآن مع بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما حدث مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى. قال أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي) لم يكن عن شك ولا لنقص يقين وإنما معناه كما قال القرطبي: (سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهاناً والمعلوم عياناً)، أما من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة؛ أوشك في شيء منه فهو كافر بلا نزاع عند المسلمين.

فالإيمان واليقين هو منطلق القرآن، بعكس الشك الذي هو إلحاد في بعض الأمور وجهل في بعضها الأخر. كما رأينا كيف وقف القرآن وقفات كثيرة مع الشكاك.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. إسماعيل صديق عثمان إسماعيل؛ أستاذ العقيدة والأديان المشارك. عضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
تعيين الشيخ فواز مفتياً تتويج لمسيرته الدعوية ومنهجه الوسطي المتزن

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع