غزّة؛ حياة على قيد الموت!
بقلم: رانية نصر
عضو الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين
في مشهدٍ
دراماتيكيٍّ يندَى له جبينُ الرّحمة والإنسانية، تُفجعُ الطبيبة الغزّاوية آلاء
النّجار بخبر استشهادِ أقمارِها التّسعة، تقفُ عاريةَ المشاعر فارغةَ الوجدان
مشدوهة الّلبِّ، مذهولةً أمام هولِ الصّدمة، يضِجُّ صدرُها الذّبيحُ بالجنون، ويتقلّبُ
فؤادُها على جمر النار وهو مكظوم، ويَتَخبّطُ عقلها مسٌ من الحزن والتِّيه والذُّهول،
هل ماتوا فعلاً؟ لماذا؟
وكيف
ماتوا؟ آلاء نجتْ من الموت لكنها لم تنجُ من قهر الأسئلة التي نهشت لُبَّها بمخالب
الفزع!
قصة آلاءَ ... ليست سوى نقطةٍ في بحر الأسَى،
ربما كانت الأشدُّ وجعاً، لكنها ليست الأولى ولا الأخيرة في قصص شعب يحتضر منذ سنين،
وما أقسى الاحتضارَ حين يطول.. وما أرفقَ الموتَ حين يستعجل!!
في كل بيتٍ في غزّةَ قصةٌ داميةٌ، وفي
كلِّ شارعٍ حكايةٌ مُهَدّمة، وفي كل عينٍ دامعةٍ؛ روايةُ شهيدٍ لم يُدفن بعد!
الأم الفلسطينية، سَيّدَةُ الصّبر
والنّار، ليست ككل الأمهات، تحمل على كتفيها وطنًا حُرّاً، وفي دمها يجري تاريخٌ طويلٌ
من الصبر والمقاومة، وبين جنْبَيها يرسخُ إيمانٌ ضاربةٌ جذوره في عُمق اليقين، لا
تزعزعُه نكبةٌ، ولا تقتلعُه نكسةٌ، ولا يُغرقُه طوفان!
غزّة؛
ليست مجرّدَ مدينةٍ، بل درسٌ في الصّمود والثبات، وكتابٌ مسطورٌ بالدم والبطولات، غزّة
فكرةٌ تجلّت فيها ولأجلها معالي التّضحيات، غزة ليست حدوداً وجغرافيا، ولا تاريخًا
مُمتداً فحسب؛ بل ملحمةٌ سرمديّة، وصراطُ حقٍّ يعبُره الصّادقون، ويهوي دونه
الساقطون...
غزة علّمت العالم كيف تُصنع الكرامة من تحت الردم، كيف يتسرّب شعاع الأمل من بين
الأنقاض، وكيف تَطُلُّ الحياة من تابوت الموت!
غزة... تُذبح من الوريد إلى الوريد، لا
بسكاكين العدو فحسب، بل على نصل إنسانيةٍ خرساء، غزة... المذبوحة على نصل الخذلان تقاتل
لا لتنتَصر، بل لتبقى، لتبقى مخلّدةً في ذاكرة الإنسانية، شاهدًا حيًّا على صمتٍ
ملطّخ بالخزي والعار!
في غزّة؛ الألمُ لا يُحكي بل يُجترحُ
بيَدِ المشهد، ويُقتلعُ من عين الحقيقة، ويُعاشُ في جَدَثِ الأحداث، ويرُشقُ على الجُدران
بالدم والأشلاء راسماً للوطن لوحةً خُطّت بالمآسي والأحزان والتضحيات.
في غزَّةَ...الألَمُ يَسيلُ من بَياضِ العُيون
نارًا ودَمَارًا، ويُختَصَرُ في نحيبِ المُؤذِّنِ وهو يُنادي:"حَيَّ على الصَّلاةِ..."
"حَيَّ على الفَلاحِ..." ولكِن؛ لا مُلَبِّيَ في
أَرض الشُّهداء، ولا مُجِيب في أَرضِ الأَنبياء، لا صوت هناك يعلو صوت العالقين
تحت الأنقاض وهم يَصطرِخون: "أَنقذونا... نَحنُ على قَيدِ المَوتِ"!
في غزة، القصص لا تُروى بل
تُدفن، والأحلام لا تُنسى بل تُقصف، في غزّةَ الحياة مؤجّلة، والموت أوّلُ
الحاضرين، في غزة، لا تُقاس الحياة بعدد الأيام، بل بعدد الانفجارات، والانكسارات،
والنَّاجين والرّاحلين، والمآذن المتساقطة، في غزّة الحياة تقاس بعدد الصرخات والجنائز!
في غزة، لا تولد الحياة من رحم
الأمان، بل على ظهر الرّكام، من تحت ظل الطائرات، ومن نار لا ينطفئ حقدُها، في
غزة، يموت كلّ شيء، إلا الكرامةَ والعزّةَ، في غزّة ينطفئُ كلُّ نورٍ إلا نور
الإيمان والاحتساب والرّضا، ويسكن كلُّ صوت إلا رهج الحديد وصدى التّكبير!
غزة... ليست مدينة، بل امتحانٌ
للإنسانية ومعركة لم ينجُ فيها إلا الذين ماتوا، سقطنا بجدارة في اختبار غزة
واقتدار لكنها لم تسقط، صمَدت وحدها، حاربت وحدها، ودفعت الفاتورة وحدها من لحم
أبنائها ودماء أبطالها.. غزة كانت أمة بأكملها، وستكتُب تاريخها الجديد بدموعها ودمها،
وتزرع الأمل في التراب المحروق، وتُنجب من الرماد جيلاً جديداً، جيلاً قد ينسى
الألم؛ لكنه لن ينسى الثأر والانتقام!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن
رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.