هذا ما تعلّمه العالم من طوفان الأقصى
كتبه: التهامي مجوري
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
قبل
أسبوعين من السابع من أكتوبر وبالصبط في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر 2023، كان
رئيس الوزراء الصهيوني في الأمم المتحدة يشرح لدول العالم، أن دولته الاستعمارية قد
تجاوزت كل المصاعب والمخاطر التي مرت بها في حياتها منذ نشأتها سنة 1948، ولم يبق لها
إلا خطوة واحدة لتحقيق ما تصبو إليه من استقرار تام، لدولة قائمة معترف بها من قبل
الجميع، ويؤمن بها وبوجودها العالم كله، وهذه الخطوة تتمثل في التطبيع "السعودي
الصهيوني..." وقد عرض على متابعيه في المم المتحدة لشرح مراده هذا خريطتين:
خريطة
لفلسطين التاريخية في 1948، التي أقيمت عليها دولة الصهاية، قال عنها إنها كانت مهددة
في وجودها من جميع الجهات.
وخريطة
أخرى هي لخريطة فلسطين المحتلة في وضعها الحالي، التي استولى عليها الصهاينة بكل
ما أوتو من قوة، وبدعم دولي وتطبيع عربي شبه تام، يبدأ من السلطة الفلسطينية ولم
تنته فصوله بعد.
ورئيس
الوزراء الصهيوني نتنياهو عندما عرض واقع دولته الاستعمارية، أراد أن يقول للعالم
أن شرعيته تامة ومدعومة وقابلة للسيادة على نفسها باعتراف الكبار، مدللا على ذلك بشرعية
أحيطت بالحماية والأمن الكاملين، وهي في طريقها إلى نشاط اقتصادي دولي مشترك مع
دول من العالم، من الداعمين الأساسيين والمطبعين...، وسيكون لهذه المبادرات
والمساعي التي تقوم بها دولته، وَقْع عالمي كبير في ظل التحولات التي يشهدها
العالم...؛ بل كان الرجل يتكلم عن دولة ستغير خريطة الشرق الوسط، وملامح العالم السياسية
والاقتصادية، ولم يبق له تخوف إلا من جهة
واحدة هي إيران...، التي لها طموحاتها في الصراع من أجل اكتساب مواقع نفوذ لها
بالمنطقة... أما باقي العالم فمأمون العواقب ومضمون الجانب...
وبعد
أقل من أسبوعين فقط من هذا اللقاء، حدثت واقعة السابع من أكتوبر في فجره من سنة
2023...، والتي أطلق عليها مصطلح "طوفان الأقصى"، حيث هجمت حركة
المقاومة الفلسطينية على مناطق حساسة للقوات الصهيونية بداخل الأراضي المحتلة من
غلاف غزة، بضربة "أولى استهدفت مواقع ومطارات
وتحصينات عسكرية للعدو تمثلت في إطلاق أكثر
من 5 آلاف صاروخ وقذيفة خلال أول 20 دقيقة من العملية، وأسرت وغنمت معدات، وكم
هائل من الارشيف والأجهزة المخابرتية الهامة، واسنحبت القوات المهاجمة من ساحة
العدو بنجاح، فكانت العملية الأولى من نوعها في تاريخ حركة المقاومة الفلسطينية
منذ 1948... وأعلن العدو حالة الحرب ودخل على غزة بكل ما أوتي من قوة، ولكنه لم
يفلح في الوصول إلى قوات المقاومة؛ بل ما تلقاه من ردود أفعال رجال القاومة لم يكن
ينتظره، في حرب غير متكافئة، بل هي حرب عصابات وحرب شوارع؛ لأن المقاومة لا يمكنها
مواجهة جيش بدعم دولي مفتوح على مصراعيه، وإنما استطاعت إدارة المعركة لصالحها
انطلاقا من الأنفاق، برجال حفاة عبر عنهم جنود الصهاينة "بالأشباح"،
واستمرت الحرب هذه اكثر من عشرين شهرا ولا تزال مستمرة بصور مختلفة، ولم يفح ولم
ينجح العدو إلا في اصطياد "الأطفال والنساء" وهدم البيوت على رؤوس أهلها.
ولا يهمني هنا التقويم النهائي للمعركة، ومن الرابح؟ ومن الخاسر؟ وهل
العملية فيها نصر وهزيمة؟ ومن المنتصر، ومن المهزوم؟ ومن المسؤول على الجرائم
المرتكبة في حق الشعب الفلسطيني؟ وإلى ما هنالك من التساؤلات المشروعة التي لا بد
من الإجابة عليها من قبل الدارسين والاستراتيجيين وأرباب المسؤوليات في المؤسسات
الدولية والداعمين لهذا الطرف أو ذاك، وليس أصحاب القرار... لأن أصحاب القرار هنا
وهناك له ما يبرر به فعله لأنه في مواجهة عدو؟ فالمقاومة تقوم بواجب تحرير بلادها المستعمرة،
وومن حقها مقاتلة العدو في سبيل ذلك، والصهاينة يعتبرون أنفسهم يدافعون عن أنفسهم!!
وإنما يهمني عرض ما اكتشفه العالم وتعلمه من هذه المعركة، من خلال متابعته
لها، من حيث أنها كشفت عن أمور لم تعد مطروحة في الساحة الدولة... فلم يعد متداول
أن فلسطين احتلت من طرف الغزاة الصهاينة في سنة 1948، وإنما يعرف العالم أن هناك
دولة يهودية معترف بها من قبل العالم، وقد اعترف بها بعض الفلسطينيين أنفسهم، وهي
في تفاوض مستمر من أجل تذليل الصعوبات التي في طريق كل بلد تجاه هذه الدولة!!
ولذا رأيت من المهم الكشف عن بعض ما نُسِي في
تزاحم الأحداث التي يمكن إيجازها فيما يلي:
أولا: أن الشعب الفلسطيني ليس كله مع التطبيع والمطبعين
وطروحاتهما الاستسلامية، وإنما هناك قاعدة عريضة ترى أن بلادها محتلة ولا بد من
تحريرها، وقد اجتمعت هذه القاعدة في المقاومة التي أعيد تشكلها وصياغة أنشطتها من
جديد ابتداء من الاتفاضات المختلفة والمتنوعة خلال سنوات الثمانينيات، وهي تتطور
شيئا فشيها، وقد كشف طوفان الأقصى عن مستوى تطورها هذا، وهي مرشحة للنمو أكثر واستقطاب
قوى حديدة من باقي التيارات الوطنية المقاومة، من القوى التي يئست من مفاوضات
السلطة والوعود الدولية الكاذبة.
ثانيا: ما كان يحكي عنه رئيس الوزراء الصهيون في الأمم
المتحد في الأسبوع الأخير من سبتمبر 2023، كان وهما توهمه، من أن بلاده أصبحت في
مأمن من الحرب، فقد أكتشف العالم أن المعركة عادت إلى المربع الأول وهو أن فلسطين
محتلة من طرف اليهود، الذين جاءوا من كل العالم إلى أرض الميعاد!! بل إن
بعض اليهود أنفسهم تسلل إليهم الشك في إمكانية البقاء، فمنهم من عاد لتصديق حخامات
اليهود الذين لا يؤمنون بمشروعية قيام دولة لليهود، إيمانا منهم من أن ذلك ممنوعا
في ديانتهم، ومنهم من لم يعد يؤمن بوجود أمن في فلسطين بسبب يقظة المقاومة التي سوف
لن تتوقف عن مهاجمة الصهاينة...
ثالثا: اكتشاف العالم لهمجية الصهاينة، فقد شهد العالم
وتابعت الشعوب، أن ما قام به الصهاية خلال العشرين شهرا هذه الأخيرة، لم يعرفه
العالم منذ الحرب العالمية الثانية، من تعمد القتل والتدمير والاعتداء الصارخ على
الأطفال والنساء والصحافيين وعمال القطاع الصحي وعمال الإغاثة والدفاع المدني...
كل هذه الفئات لها حصانة دولية لا يجوز المساس بها، ومع ذلك قتل عشرات الآلاف منهم
بدم بارد، ولا أحد استنكر ذلك؛ بل وجدت هذه الاعتداءات من الدعم الدولي ما لا
يسيغه منطق ولا عقل، وبسبب ذلك تحركت شعوب العالم بالمسيرات المليونية مستنكرة هذا
التوجه اللاإنساني الذي انتهجته قيادات الأنظمة الغربية، ومنها على وجه الخصوص
الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا تحديدا. أما على المستوى
الرسمي فالتحرك كان محتشما، ولكن ظهر فيه بعض الجديد، حيث كان لإسبانيا حضور في
رفض الهمجية الصهيونية، كما رفعت بعض الدول من سقف احتجاجتها إلى الأمم المتحدة
ومجلس الأمن والمحكمة الدولية، وقد صدرت بالفعل أحكاما ضد الصهاينة بوصف نشاطهم
العسكري يدخل في حروب الإبادة والجرائم ضد الانسانية.
رابعا: سقوط فكرة التطبيع، حيث أن ما تحقق من مشاريع
التطبيع مع مصر والأردن والإمارات والسطلة الفلسطينية...، لم يستطع تحقيق الأمن
للدولة الصهيونية، ولم يقدر على إقناع رجال المقاومة بثنيها عن خيارها القتالي،
والصهاينة لا يمكن أن يستمروا في طريق لا يحقق لهم ما يريدون، وقد أدركوا أن هذه
الأنظمة التي وقّعت معها معاهدات الاستسلام لم تستطع تطويع شعوبها وإقناعها بإمكانية
السلام معها، بمن في ذلك الدول المجاورة لها مثل: الأردن ومصر.
خامسا: استحالة نجاح مشروع الدولتين وهو الطرح الأقرب
للقبول الدولي لفض النزاع المسلح بين المقاومة والصهاينة، لأسباب كثيرة، ومنها أن
تصور هاتين الدولتين مختلف فيه بين العرب والصهاينة، فالعرب يريدون دولة فلسطينية
بصورة، والصهاينة وداعميهم يتصورونها بصورة أخرى، ومن ناحية أخرى أن طوفان الأقصى
قد أكد للصهاينة بعدم جدوى الدولة الفلسطينية، وقد أثبتوا أنهم مصدر قلق وسيبقون
كذلك... فإذا كانوا بوضعهم الحالي وقد طوروا من قواتهم القتالية إلى هذا المستوى،
فماذا يكون الأمر لو كان لهم دولة؟
سادسا: انهيار القيم السياسية والتنظيمات الدولية التي
أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، وفجائية الكثير من الأحداث بفضل تقارب نهاية
الدورة الحضارية للمجتمعات الحالية، التي تحكم العالم اليوم، والتسارع الاجتماعي
الثقافي السياسي بفضل تقارب العالم وتيسير التواصل وتلقائية تبادل التجارب بين
الشعوب، بحيث أضحى حضور الشعوب في المسرح السياسي في العالم أكثر من حضور الأنظمة.
سابعا: سقوط نظام الأسد ونشأة النظام الجديد في سوريا،
وإمكانية تطور علاقاته الإيجابية مع حزب الله بالجنوب في ظل الدولة اللبنانية،
وعودة الحزب إلى أصوله التي انشئ عليها أيام صبحي الطفيلي وغيره من المعارضين للعلاقة
مع إيران خارج المقتضيات الوطنية اللبنانية...، ورغم أن من الناس من يشكك في توجه
النظام السوري الجديد ويشكك في مواقفه من القضية بسبب أن بلاده تقصف ولا يرد
واتهام الرئيس الشرع بتوطيد العلاقات مع الصهاية والأمريكان، ولكن الحقيقة التي يعرفها
التاريخ عن الشعب السوري ونخبه المختلفة، لا يمكن أن يخون القضية، فضلا عن أن
النظام القائم اليوم من عمق التركيبة الشعبية الصحيحة بأبعادها القومية الدينية
الثقافية... وكما قلت رغم موجة التيئيس التي تحيط بالتجربة السورية، فأنا متفائل
جدا بتغيير الواقع في سوريا وبإيجابيته تجاه القضية الفلسطينية تحديدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين.