بسم الله الرحمن الرحيم
موسم الحج والثوابت
الشرعية
-ثابت النهي عن الظلم-
بقلم: الدكتورة نزيهة م
معاريج
رئيسة لجنة الثوابت والفكر الإسلامي بالاتحاد
تقديم:
ليس
القصد الحديث عن هذا الركن العظيم من أركان الإسلام من حيث ما يتعلق به من أحكام
شرعية مع الحاجة إلى معرفتها وأهميتها كي تؤدى العبادة في أحسن تقويم، ولكن القصد الكشف
عما يستبطنه هذا المنسك العظيم من أسرار وما يحيل عليه من أبعاد حضارية في علاقتها بثابت النهي عن
الظلم انطلاقا من قول الله تعالى :" إنّ عدّة الشُّهور الله اثنا عشرَ شهرًا
في كتاب الله يومَ خلق السماوات والارض، منها أربعةٌ حرمٌ، ذلك الدّين القيّم، فلا
تظلموا فيهنّ أنفسكم، وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة، واعلموا أنّ
الله مع المتّقين" .[ التوبة/36]
فالنهي
عن الظلم ثابت حضاري و تكليف شرعي ملازم لجميع الأزمنة و الأمكنة.
وبالنظر إلى أهميته من جهة وعظم فضل الأشهر الحرم من جهة
أخرى تم التنصيص عليه و التأكيد على
مراعاته ، ليتقرر منه أن
مراعاته في العشر الأوائل من ذي الحجة هو أشد وطئًا
وأقوم قيلا لما خصت به هذه الأيام
الشريفة من زيادة الشرف وعظم قدر.
- فضل العشر الأوائل من ذي الحجة وفضل العمل فيها
و فضل
هذه الأزمة المبارك من وجوه عدة منها:
1-
أنها الزمن الذي أقسم به الباري سبحانه وتعالى حيث قال
:" والفجر وليالٍ عشرٍ" [ الفجر/1-2 ] والذي عليه الجمهور من المفسرين
أنها العشر الأوائل من ذي الحجة()، والعظيم سبحانه وتعالى لا
يقسم إلا بعظيم، فعلم بذلك عظم فضل هذه الأيام وفضل ما يُعمِّرها من الطاعات.
2-
أن الله تعالى سبحانه وتعالى سماها بالأيام المعدودات والأيام المعلومات، حيث قال:" واذكروا الله في أيام معدودات "
[ البقرة/203] ، و قال عز من قائل:" ويذكروا الله في أيام معلومات "[
الحج/26]، والمراد العشر الأوائل من ذي
الحجة وهذا قول عبد الله بن عمرو وعبد
الله بن عباس().
3-
فيها يومين عظيمين هما يوم عرفة ويوم النحر، فيوم عرفة
يوم المغفرة والدعاء ويوم يباهي فيه المولى عز وجل ملائكته()، وهو يوم نزوله عز وجل إلى سماء الدنيا(). ويوم النحر؛ يوم الحج الأكبر ويوم عيد الأضحى،
وهو أفضل أيام السنة عند طائفة من العلماء().
4-
أن النبي صلى الله عليه وسلم حثنا على الإكثار من الأعمال الصالحة في هذه الأيام الشريفة، فعن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما من
أيّامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام، قالوا: يا ر سول الله ولا
الجهاد في سبيل الله؟ قال : ولا الجهاد في سبيل، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم
يرجع من ذلك بشيء."()
ولعله المفيد بمناسبة الاستشهاد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم التذكير ببعض
معاني الحديث بعد ظهور بعض التأويلات الشاذة
المخالفة لصحيح النقل المناقضة لصريح
العقل وهي:
1-
أن الحديث فيه تنبيه
على عظم فضل العشر الأوائل من ذي الحجة، والتأكيد
على قدر العمل الصالح فيها ومضاعفة أجورها مقارنة مع غيرها من الأزمنة الأخرى ، فالمسالة إذا
هي تفضيل الأزمنة والأوقات .
2-
المراد أن العمل المفضول الذي يكتسب الفضل في هذا الوقت
الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في ذاته خلال كل الأزمة.
3-
أن الجهاد عمل فاضل في ذاته ، فهو ذروة سنام الإسلام و فضله غير مكتسب ولا يعود إلى مرجح خارجي.
4-
أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيه حث على الإكثار من
الأعمال الصالحة خلال هذه الأيام المباركة، والجهاد من الأعمال الصالحة بل هو ذروة سنامها، ليتقرر بذلك
أن الجهاد يشارك الأعمال
الصالحة في فضلها و يزيد عنها بفضله الخاص الذي انفرد به، وهذا هو منطوق الحديث الشريف عند إعادة النبي صلى الله عليه التنصيص عليه بقوله:" إلا
رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء".
5-
أن الأعمال الصالحة اسم جامع لجميع الطاعات وقد تم ذكرها
من غير تخصيص و لا تنصيص خلاف الجهاد
الذي خص بالذكر ليتأكد به فضله مرة
أخرى.
و بحسب فضل الجهاد السابق، و التكالب اللعين الذي تعرفه
أرض المباركة، و الاعتداءات السافرة التي
تتعرض لها مقدسات الأمة في الحاضر، يصبح الجهاد واجب الوقت الذي لا يحتمل التأخير ، و هو يتخذ
صورا مختلفة وأشكالا متنوعا؛ فهو يتوزع ما بين جهاد: المال والنفس والعلم والتوعية والمقاطعة
... فعلم به أنه
لا عذر لمسلم
في التخلف عن هذه العبادة الجليلة في الأيام المباركة والأوقات الفاضلة.
-
الأشهر الحرم والنهي عن الظلم :
من المطالب الشرعية المتعلقة بالأشهر الحرم بعامة وبالعشر
الأوائل من ذي الحجة بخاصة النهي عن الظلم،
ومعناه تحري العدل و السعي إلى إقامة، والدعوة إلى تجنب الظلم في الأشهر الحرم يجعله آكد في العشر الأوائل من ذي الحجة بالنظر إلى
زياد فضلها وعظم قدرها، قال الله تعالى :" فلا تظلوا فيهن أنفسكم" [التوبة/36 ]
والنهي عن الظلم له
مستويات :
أولا، النهي عن ظلم المولى عز وجل بالاعتداء على مقام
الألوهية وحرمة الربوبية، قال الله تعالى :" إن الشّرك لَظُلمٌ عظيم"[
لقمان/ 12] فظلم الخالق المبدع المصور عز
وجل أن نسويه بالآلهة العاجزة المحتقرة ،
قال الله تعالى :" أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين" [ الصافات/125 ] فالنفوس السوية والعقول السليم تترفع عن الخضوع للآلهة المزيفة المخلوقة، و لا
ترضى العبودية إلا للإله الحق الخالق
القادر قال الله تعالى :" أفمن يّخلق
كم لّا يخلق أفلا تتذكرون" [ النحل/17] فالتسوية بين المقامين وافتراء وكذب ع
وظلم للإله الحق، قال تعالى على لسان الفتية الذين آمنوا بربهم :" هؤلاء
قومنا اتّخذوا من دونه آلهة لّولا ياتون عليهم بسلطان بيّن، فمن اظلم ممّن افترى
على الله كذبا."[ الكهف/15]
ثانيا، ظلم النفس بأن ننحرف بها عن وظيفة العبادة ومهام
العمارة، قال الله تعالى:" وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون"
[الذاريات/56] وقال أيضا:" هو أنشأكم مّن الارض واستعمركم فيها"[
هود/60]و الإعمار ضد الخراب، والمعنى عمارة الأرض بالحرث والزرع والغرس...
ثالثا ،ظلم العباد وهما صنفان:
الصنف الأول، عباد تجمعنا بهم وحدة الخَلق و رابطة الإنسانية،
وهي أمور تقررت بنصوص الكتاب العزيز و السنة النبوية الشريفة حيث جاء النداء في أكثر من موضع بقول الله تعالى :" يا أيها الناس" و عن علي رضي الله عنه أنه قال :" الناس صنفان أخ لك في الدين
ونظير لك في الخلق".
فالظلم منهي عنه مع هذا الصنف من العباد، ففي الحديث
القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما
يرويه عن ربه:" يا عبادي إني حرمت
الظلم على نفسي جعلته بينكم محرما فلا
تظالموا." ()
فالعبودية
صفة جامعة للعباد سواء في ذلك أهل الاختيار وأهل الاضطرار، فالعباد جميعا عبيد
ربوبيته وأهل طاعته هم عبيد ألوهية، فالربوبية تجمعهم والألوهية تفرقهم، فالاختلاف
مع الآخر في المعتقد لا يمنحنا مشروعية
ظلمه والاعتداء عليه، والعدل في حقه
مكفول بمقتضى الأخوة الإنسانية ما لم
يعتدي معتد علينا و لم يظلمنا
:" فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"[ البقرة/193]
الصنف الثاني: هم العباد الذين تجمعنا بهم رابطة الدين.
فإذا كان
الظلم محرما بمقتضى الأخوة الإنسانية، فإن تحريمه بمقتضى أخوة الإيمان والإسلام أشد، قال الله تعالى
:" إنّما المومنون إخوة"[ الحجرات/
10] فقد تم الربط بين صفة الإيمان وصفة الأخوة، وعن النبي صلى الله عليه
وسلم في خطبة الوداع أنه قال:" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة
يومكم هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت" ()و عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول صلى الله عليه وسلم :" المسلم أخو
المسلم ()لا يظلمه، ولا يُسلمة، من
كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من
كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله
يوم القيامة " وعند الإمام المسلم:" كلُّ المسلم عل المسلم حرام، دمه، وماله،
وعِرضه" .
وقوله صلى
الله عليه و سلم:" لا يظلمه" خبر بمعنى الأمر فإن ظلم المسلم للمسلم
حرام".()
فتحري العدل في التعامل
مع الإخوة رحم في الدين
وتخلق باسم العادل، والظلم قبيح توعد المولى عز وجل فاعله بأشد العقوبات قال النبي صلى الله عليه وسلم
:" اتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب،" ()قال ابن حجر:" المعنى تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم وفي
هذا تنبيه المنع من جميع أنواع الظلم".()
فرابطة الأخوة يترتب عليها حقوق ولها واجبات منها تجنب الظلم
وهو من وطريقين:
1-
عدم الاعتداء على
إخوة الإسلام و الإيمان كما هو منطوق حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم ألا يلحق بهم الظلم بشكل مباشر.
2-
دفع الظلم عنه والسعي
في إزالة أسبابه، و تتمة حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله :" لا يُسلمه،" يوضح المعنى،
أي لا يتركه مع يؤذيه و لا فيما يؤذيه، وإنما الواجب الدفع عن أخيه و نصرته وبذل الوسع في ذلك . و هو الأمر قد يكون للوجوب وقد يكون للندب بحسب اختلاف الأحوال، وقد وزاد الإمام الطبراني في طريق أخرى عن سالم
:" لا يسلمه في مصيبة نزلت به ." () .
والمؤكد
أن درجة الظلم والاعتداء الواقع على
إخواننا بفلسطين على أيدي الصهاينة المجرمين،
وما نزل بأرضهم من محن و مصائب
بسبب الحرب البربرية التي شنها العدو
عليهم تجعل الامتناع عن تسليمهم واجبا على كل مسلم و لا تبرأ ذمته إلا برفعه ودفع والتماس
كل سبل إنهائه، لمَّا أنه ظلم فوق ما تتحمله النفوس ولا تتخيله العقول.
ومن متممات الانصاف لإخوة الإيمان ورفع الظلم عنه السعي في قضاء حوائجهم وتفريج كربهم والوقوف إلى
جانبهم و إنقاذهم من المهالك والمخاطر،
قال النبي صلى الله عليه وسلم :" ومَن
كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله
عنه كربة من كرب يوم القيامة."
والكربة اسم جامع لما فيه مشقة من أمور مادية ومعنوية، وتفريجها
مطلب شرعي ومنزع إنساني فطري وتفسيره فعل
زهير بن أبي أمية في الجاهلية :" يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو
هاشم هلكى و لا يباع و لا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة
الظالمة ."
بالتطابق الحاصل بين النقل والعقل والفطرة على دفع الظلم تصبح التعجيل
بقضاء حوائج إخواننا في فلسطين والمسارعة
في تفريج كربهم وتفريج همومه وكشف
غمومهم ضرورة لا مناص منها ويجعل أجورها أضعافا مضاعفه ، و كل تقصير في ذلك هو ظلم وإسلام لهم للأعداء فضلا عن أنه يعود
بالنقض على عدد من عرى الاخوة وشعبها ومنها:
1-
نقض عروة الولاية والنصرة ، قال الله تعالى :"و
المومنون و المومنات بعضهم أوليات
بعض"[التوبة/72] :" فهي اشارة إلى اللحمة الجامعة بينهم وما يترتب عليها من التزامات، والتخلي عن إخوة الإيمان وخذلانهم نقض لعروة الولاية وإبطال لها.
2-
نقض عروة وحدة الأمة، قال
الله تعالى :" واعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرّقوا،" [ آل عمران/ 102 ] وقال
الله تعالى:" إن هذه أمّتكم أمّة واحدة ،وأنا ربّكم فاعبدون،" [الأنبياء/
91 ] فالوحدة مطلب شرعي وتكليف رباني
أساسه رابطة الأخوة في الدين، والتفريط في الإخوة بظلمهم أو بعدم دفع الظلم عنهم وتسليمهم
للأعداء مؤذن بنقض هذه العروة مُوقِع في التفرقة .
و للتنبيه فإن حديث النبي صلى الله عليه وسلم قد أفتتح بالجمع
بين رابطة الأخوة و رابطة الإيمان، وانتهى بالحديث عن هذه الروابط، حيث
قال صلى الله عليه وسلم :" ومن ستر
مسلما ستره الله والدنيا والاخرة" . لتأكد علاقة
التلازم الثابتة بينها.
وخلاصة ما سبق إن
فضل ترك ظلم الإخوة و دفع الظلم عنهم وبخاصة في الأزمة الشريفة متعدد الأبعاد
مضاعف الأجوروسببه ما يلي:
1-
أنه من الطاعات والقربات التي يتقرب بها إلى الله.
2-
أنه تخلق باسم من الأسماء الحسنى وصفة من صفاته العلا في تنزهه سبحانه وتعالى عن الجور
والظلم.
3-
أنه إقامة لعدد من عرى الإيمان ومنها عروة الولاية و النصرة والوحدة.
4-
أنه تنزيل لثابت
شرعي ومطلب حضاري مطلب إقامة العدل و
محاربة الظلم .
5-
أنه امتثال للشرع الحنيف و للتوجيه النبوي الشريف بتعمير الأزمنة الشريفة بالطاعات والقربات .
6-
أنه تكثير مناسبة
للتنويع في الأعمال الصالحة في
الأزمنة الشريفة والأمكنة المباركة.
ولأن المناسبة شرط
كما يقال فإننا نذكر باغتنام هذه الأوقات العظيمة لدفع الظلم الكبير
الواقع على إخواننا بأرض فلسطين، فحقهم
على الأمة إنصافهم ودفع الظلم عنهم وعدم إسلامهم للعدو بالتصدي لأصناف الاعتداءات التي يتعرضون
لها وهي كثيرة وكثيرة جدا : تقتيل وتهجير وتدمير وتجويع وتعطيش ....
ولا ننسى أن من
مقاصد الطوفان المبارك رفع
الظلم عن مقدسات الأمة وتحرير الأسرى من أبنائها ، حيث كان شعاره ": المسرى والأسرى".
فرفع الظلم عن الإخوان في أرض فلسطين
جمع بين حسنيين، حسن التعبد في العشر الأوائل من ذي الحجة والحصول على الأجور المضاعفة ، وحسن الرمي بالسهم في مسيرة تحرير الأمة و هي قريبة بإذن الله، :"وعد الله لا يخلف الله الميعاد":"
ألا إن نصر الله قريب" صدق الله
العظيم
الحمد لله رب العالمين.