الأضحية حق أهل غزة.. رمز الفداء والتضحية
كتبه: الأستاذ عمر دورمان
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف
المرسلين، سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قريبا إن شاء الله تعالى ستحل علينا شعيرة من شعائر
الإسلام الحنيف، إنها سنة الأُضحية المباركة التي كان صلى الله عليه، وسلم يدعو
فيها لنفسه ولأمته بقوله: "اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد"
رواه مسلم.
فحريّ بالمسلم أن يعظّم شعائر الله تعالى، فإن ذلك علامة
على تقوى القلوب وخضوعها له سبحانه: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن
يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:
32].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عمل آدمي
من عمل يوم النحر أحبُ إلى الله من إهراق الدّم، إنه ليأتي يوم القيامة بقرونها
وأشعارها وأظلافها، وإن الدّم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها
نفسا" رواه الترمذي، وقال حسن غريب وحسّنه المباركفوري في التحفة.
وقال عليه السلام: "من كان له سَعَة، ولم يضحَّ فلا
يقربنّ مصلانا" رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
فأنت ترى أخي المسلم أن أفضل الأعمال حين ينعدم الزحام
في يوم النحر، إراقة دم القربات.
ولتلك الأهمية البالغة في مسألة الأضحية، ذهب بعض فقهاء
المالكية إلى وُجوبها كما في حاشية الدسوقي، وهي عند الحنفية واجبة على كل حرّ
مسلم مقيم موسر، كما في الهداية للمرغيناني، وهذا الحرص على الأضحية في دول الغرب
خاصةً هو الذي نميل إليه، ونحرص على إشاعته بين المسلمين كي لا تتفق الجماعة على
ترك شعيرة من شعائر الإسلام، بلهَ انقراضها عبر تعاقب الأجيال بذريعة وَفرة اللحوم
أو غيرها من الذرائع.
إن هذا الرأي الذي نحرص عليه دائما لا ينبغي أن ينسينا
قاعدة الاستثناءات الشرعية التي تعدّ جزءا لا يتجزأ من السنة النبوية في إدارة
وسياسة أحوال المجتمع المدني، فقد روى الإمام مالك في الموطأ عن أبي سعيد الخدري
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا
وتصدقوا وادخروا ونهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا وكل مسكر حرام، ونهيتكم عن زيارة
القبور فزوروها، ولا تقولوا هجرا".
وفي مسلم، باب: ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد
ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه إلى متى شاء. ثم ذكر حديثاً: "إنما نهيتكم من
أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا" انتهى.
قال القاضي عياض في مشارق الأنوار: والدافة، من الدف
بتشديد الفاء وهو السير ليس بالشديد في جماعة.
وشرحت هذا أمنا عائشة في الموطأ فقالت: دفّ ناس من أهل
البادية حضرة الأضحى في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: الحديث. راجع
الموطأ وشرحه للزُرقاني.
قال الإمام القرطبي: ظاهر النهي عن الادخار التحريم.
قلت: انظر كيف ترتب على فعلٍ مسنون الحرمة وهو حكم أقوى منه لما يترتب عليه من ترك
حقوق الجماعة.
ثم اختلف في حكم الادخار، فقال الجمهور: هو منسوخ خلافا
لقول عائشة -رضي الله عنها- التي فهمت الأمر على أنه يدور مع التوسعة، قال القرطبي
في قوله: "إنما نهيتكم من أجل الدافة" هذا نصٌّ منه -صلى الله عليه
وسلم- على أن ذلك المنع كان لعلّة، ولما ارتفعت ارتفع المنعُ المتقدم، لارتفاع
موجبه، لا لأنه منسوخٌ، وهذا يبطل قول من قال إنّ ذلك المنع إنما ارتفعَ بالنسخ.
ثم ذكر الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علّته. (فراجعه تجد العجب).
"وعليه، فإذا وجد فقراء في مجتمع ما، ووصل الأمر
إلى الجوع كما حدث في المدينة في ذلك العام وكما يحدث في كثير من بلاد المسلمين في
عصرنا، وجب على المضحين في العيد إطعامهم من لحوم الأضاحي وعدم إبقاء شيء
منها" انتهى. مقاصد الأحكام الشرعية وعللها للدكتور جاسم عودة.
وعلى هذه السنّة الاستثنائية المعلَّلَة، ارتكز فقهاؤنا
أحيانا لإيجاد الحلول المؤقتة وسياسة المجتمع في شتى شؤونه، ألم يُمسك الرسول -صلى
الله عليه وسلم- عن التسعير حين على السعر؟
وذلك لما ُطلب منه أن يحدد أسعار السوق حينما ارتفعت
ارتفاعا فاحشا فقال: "بل الله يرفع ويخفض وإني لأرجو أن ألقى الله، وليست
لأحدٍ عندي مظلمة".
قال الإمام الباجي: إن إجبار الناس على بيع أموالهم بغير
ما تطيب به أنفسهم ظلم لهم مناف لملكها لهم.
ثم ذكر قول ابن حبيب المالكي، ومال إليه حيث قال: ينبغي
للإمام أن يجمع وُجوه أهل سوق ذلك الشيء، ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم، فيسألهم
كيف يشترون؟ وكيف يبيعون فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد. انتهى.
فقد أجازا التسعير استثناء مع وُجود الحرمة، وذلك للنظر
إلى مصالح الناس. انظر المنتقى للباجي على الموطأ.
وقتئذ نقول: إن نصرة إخواننا في فلسطين عموما وغزة
بالتحديد من الأمور الواجبة شرعا، ذلك أنهم طلبوا منا النصرة والإعانة المادية،
فاستجابةً للقرآن الكريم ثبت الوجوب بقوله تعالى: ﴿..وَإِنِ
اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ..﴾ [سورة الأنفال:
72]. قال الإمام الشوكاني في فتح القدير: أي فواجب عليكم النصر. انتهى.
والحكم نفسه اختاره العلامة ابن عاشور، وعلله بقوله: لأن
نصرهم للدين ليس من الولاية لهم، بل هو للدين.
فكيف إذا كان النصر للدين ثم لإنسانية المواطن الفلسطيني
المظلوم، الذي بذل النفس والنفيس لردّ العدوان المستعمر، والرسول -عليه السلام-
ينهانا أن نتخلى عن المسلم حيث يقول: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله
ولا يسلمه " رواه مسلم.
وقال: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم،
مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه
البخاري ومسلم.
وأي أمة ندعو لنصرتها؟
أليست الأمة الصامدة المقاومة في سبيل القبلة الأولى
للمسلمين، أليست الطائفة التي بشرنا بها رسول الله -عليه السلام- بأنها الطائفة
التي على الحق المبين؟
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: واعلموا أصلحكم الله،
أن النبي صلى الله عليه، وسلم قد ثبت عنه من وُجوهٍ كثيرةٍ أنه قال: "لا تزال
طائفة من أمتي ظاهرة على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم إلى يوم
القيامة" ثم علّق بقوله، وثبت أنهم بالشام.
لذا نرى وُجوب نصرة الفلسطينيين بالمال، وذلك بإرسال ثمن
الأضحية استثناء هذا العام وإسقاطها على المسلمين لواجب النصرة الشرعية، ولا يحسن
بنا أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة، لقوله تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ
وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة البقرة: 195].
روى البخاري عن حذيفة قال: نزلت هذه الآية في النفقة.
انظر أسباب النزول للسيوطي
وقال ابن عباس، المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا
النفقة في سبيل الله وتخافوا العَيْلة، فيقول الرجل ليس عندي ما أنفقه. راجع تفسير
الرازي.
وقال القرطبي: إن كنت من رجال الدين أنفق مالك في سبيل
الله، وفي طلب مرضاته، وإن كنت من رجال الدنيا، فأنفق مالك في دفع الهلاك والضرر
عن نفسك. انتهى من تفسيره.
فأنت ترى أخي المسلم أن المال سبب النجاة في الدنيا
والآخرة، فإذا بُذل في سبيل الله لإعمار غزة رجاء ثواب الدنيا والآخرة، ومن يبخل
فإنما يبخل عن نفسه، ولا يضر الله شيئا، كما ثبت في الحديث السابق بنص الرسول، ونص
القرآن الكريم حين يقول: "ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله، فمنكم
من يبخل ومن يبخل، فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولوا
يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم" محمد 38.
فهذه مسؤولية الجميع وخاصةً مسؤولي الجمعيات الإسلامية،
ذلك أن المسألة خاضعة للأحكام السلطانية، الراجعة إلى سياسة أموال الأقلية المسلمة
في الغرب، وحثهم على وُجوب النصرة لنا أولا ولإخواننا في فلسطين عموما وغزة
بالخصوص، ولا يليق بنا أن نظل على البداوة التي وصف بها ابن خلدون الأعراب بأنهم
أبعد الناس عن سياسة الملك، والسبب في ذلك كما قال، إنهم أكثر بداوة من سائر
الأمم. فكيف يا ترى يكون وصفه لنا ونحن نعيش في حضارة، ولا نقتبس منها الخير
الكثير في إدارة شؤون المسلمين، وقد أخبرنا رسول الله -عليه السلام- أن كلّ من تقلّد
حكم جماعة سُئل يوم القيامة أأدى حق الأمانة لم لا، فقال: "كلكم راع وكلكم
مسؤول عن رعيّته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن
رعيته" رواه البخاري.
ولا يفوتني أن أذكّر نفسي والمسلمين بقضية العمران
والتعمير البشري للأرض، وأنه من مقاصد الخِلقة البشرية، ذلك أن القرآن الكريم عقّب
على معجزة خلق البشر مسؤولية الإعمار والتعمير في الأرض بقوله: "هو أنشأكم من
الأرض، واستعمركم فيها" هود 61. قال ابن عاشور: الاستعمار من الإعمار أي
جعلكم عامرينها، ومعنى الإعمار أنهم جَعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع؛
لأن ذلك يعدّ تعميرا للأرض.
وقال الألوسي في روح المعاني "والمعنى، أمركم
بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وحفر أنهار وغرس أشجار وغير ذلك، وذهب
العالم " الكيا الهراسي" إلى أن إعمار الأرض واجب، وردّ عليه صاحب
الكشاف أن الإعمار منه الواجب كبناء المساجد، ومنه المباح ومنه الحرام.
هذا في زمانهم، ولا يخفى على مسلم أن المساجد كانت تمثل
في وقتهم المدارس والجامعات عندنا اليوم، وهي الآن في غزة مدمّرة على آخرها، حتى
المستشفيات التي يأوي إليها المرضى والمصابون لم تنجُ من القصف العدواني.
وعليه، فإننا نرى وُجوب النصرة والإعانة بالمال الذي خصص
للأضحية لهذه السنة اقتداء بسنة الخليفتين الراشدين أبا بكر وعمر، إذ ثبت عنهما
أنهما كانا لا يضحيان عن أهلهما مخافة أن يُرى ذلك واجبا، وفي رواية، كراهية أن
يقتدى بهما، والرأي نفسه كان يفعله أبو مسعود الأنصاري وهو موسر، مخافة أن يرى،
كما قال، جيراني أنه حُتم علي. انظر هذه الأقوال التي صححها الألباني في الإرواء.
هذا من باب سد الذرائع التي قال عنها القرافي، أنها
تُسدّ وتُفتح، والذي نقول به هو فتح ذرائع الخير والنصرة استثناء لواجب الأخوة
وتقديم حق الجماعة وموالاة المسلمين والذبِّ عنهم لقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة التوبة:
71].
والله
ولي التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها
ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.