البحث

التفاصيل

تفكيك منظومات الاستبداد (٥٦): عاد موسم الحج.. وليسجل التاريخ

الرابط المختصر :

تفكيك منظومات الاستبداد (٥٦): عاد موسم الحج.. وليسجل التاريخ 

بقلم: أ.د. جاسر عودة

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

ها هو موسم حج ثاني يعود علينا والمشاعر مختلطة في النفوس بسبب الأحداث المروّعة في فلسطين، بين الاستبشار بنصر من الله قريب إن شاء الله، وتحقيق (وعد الآخرة) بإساءة وجوه المجرمين المفسدين في الأرض وتتبير ما عَلَوا من بنيانات الطغيان تتبيرًا -وكلها نظام واحد-، وهو وعد من الله حق آت لا محالة، بين هذا وبين حزن وغمّ وألم في قلب كل مؤمن صادق -بل وكل إنسان حر شريف- للمشاهد اليومية البشعة لاضطهاد أشرف وأنبل من في أمة محمد ﷺ من الناس، والتي لا تزداد مع الأيام والشهور إلا بشاعة، والتي تُظهر قسوة أعداء الإسلام الكافرين -ومعهم المنافقين من بني جلدتنا- في انتقامهم من أهل الإسلام الذين أيدوا المرابطين في أكناف بيت المقدس، فتجاسروا على قول ”لا“ للنظام العالمي الجديد ولـ ”صفقة القرن“ المرتقبة، انتقام لا يزيد إلا ضراوة بعد أن نجحوا في كتم أصوات الحق -شرقًا وغربًا- عن طريق ممارسة ”إرهاب الدولة“ التي سموها ”وطنية“، وخاصة كتم صوت العلماء الربانيين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فنشعر في الحلق بغصّة لا يزيدها حلول موسم الحج وعيد الأضحى علينا إلا شدة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

عاد موسم الحج، وليسجل التاريخ حال أمة الإسلام، فقد قطّعها أعداؤها إربًا حتى ما بقيت شذرة من أرض أو عنصر في قوم إلا وجعلوا له دويلة ضعيفة، تقوم إذا أبقت نظام الاستعمار الغازي القديم الجديد كما هو، لتخدمه وتبيع قضاياها وتقتل أحرارها وأسُودها من أجله، وتنهار إذا خرجت عن الخط المرسوم فيرفعوا عن حكامها الحماية، ويتركوهم لشعوبهم الغاضبة من ظلمهم لتُسقطهم بثورة! وأعداء الأمة بتلك الخدعة الماكرة قد روّضوا حكامها -منافقين وغير منافقين- على العبودية للإمبراطورية البيضاء الجلد، الحمراء اليد والأنياب من دماء المسلمين، وأضحى كل حاكم مسلم -إلا القليل النادر- لا يُسمح له إلا بالتنافس مع من حوله على الزعامات الشخصية والخلافات الطفولية والتكاثر في الأموال ووسائل الترف وتوريث الحكم لأولاده أو للطغمة التي ساندته ودعمت أركان حكمه، ولا تخلو دويلة واحدة من دويلات أمة الإسلام -من غرب أفريقيا إلى شرق آسيا- من التنازع مع جيرانها على ”حدود“ مزعومة أو ”سيادة“ مكذوبة، في الوقت الذي استأجر فيه الأباطرة المعاصرين بلاطجة غلاظ شداد من أجل أن يكونوا رأس حربتهم في قلب أمة الإسلام، في أرض الرباط في فلسطين وما حولها من بلاد العرب، خاصة في بلاد الأعراب الذين هم أشد كفرًا ونفاقًا.

عاد موسم الحج، وليسجل التاريخ أن الشعب البطل الصابر المرابط من إخواننا وأخواتنا في فلسطين -أطفالًا ونساءً ورجالًا وشيوخًا- يُقصفون ويُحرقون ويُسجنون ويُجوّعون ويُهجّرون على مرأى ومسمع من العالمين، وبعون وإسناد لأعدائهم من بني جلدتنا من المنافقين، إسناد وصل ببعضهم إلى التعاون العسكري والمشاركة في القتال والسلاح، فضلًا عن الإسناد الاقتصادي الذي لم تبرأ منه ولا دولة إسلامية واحدة اليوم، وليشهد التاريخ!

وليشهد التاريخ أنه لا يعارض هذه المهزلة معارضة مؤثرة شيئًا ما، إلا فئة من شباب الجامعات والجمعيات الشرفاء، وبعض السياسيين والإعلاميين وأصحاب الفكر ومتطوعي العمل الخيري، سواء في البلاد الغربية التي تشارك حكوماتها في العدوان، أو في بلاد العرب على خوف من الفراعين وأملائهم أن يفتنوهم، أو في بلاد آسيا التي يتفرج حكامها على انهيار الإمبراطورية الغربية السريع بكل سرور فيشجعون شبابهم على المعارضة من باب الكيد لها.

عاد موسم الحج، وليسجل التاريخ أن شريحة معتبرة -ولو كانت أقلية عددية- من المواطنين الغربيين يتظاهرون كل أسبوع في عواصم بلادهم، ليعارضوا الإمبراطورية الغربية نفسها، خاصة وأن نظمهم السياسية تركض نحو الفاشية من أجل حماية الكيان، وإن كانت فاشية إلكترونية هذه المرة سلاحها الأقوى هو الذكاء الصناعي وشركات التواصل الاجتماعي! وهؤلاء المواطنون الغربيون الشرفاء قد تحملوا الأذى والفصل من العمل والاعتقال التعسفي، بل وقُتل بعضهم في سبيل وقوفهم مع الإنسانية والعدالة. ثم ها هم في موسم الحج قد ركبت صفوة منهم البحر المتوسط في قوارب صغيرة، يخاطرون بحياتهم المرة تلو المرة حتى يوصّلوا أدنى ما يمكن توصيله من إغاثة إلى غزة العزة، ويقولون إنهم إنْ لم يفعلوا ذلك فقدوا إنسانيتهم، فليسجل التاريخ من فقد إنسانيته ومن لم يفقد، وليسجل تاريخ الإسلام من فقد دينه ومن لم يفقد! مع العلم بأن الله تعالى قد هدى إلى الإسلام خلال العام الماضي فقط أعدادًا منهم، تقدر اليوم في نهاية عام ١٤٤٦ هـ بمئات الألوف في كل بلد غربي، بفضل الله ثم بفضل المثال الحي للإسلام الذي يقدمه أبطال فلسطين، فيرى الغربيون -والشرقيون كذلك- الإسلام على حقيقته الناصعة فيسلمون أفرادًا وجماعات.

وليسجل التاريخ أيضًا أن من عارض أو كان سيعارض المقتلة الهائلة للمسلمين في فلسطين قد غيّبتهم غياهب السجون العربية في كل بلاد العرب - بلا استثناء إلا النادر-، وأن هذه السجون باتت وسيلة للقتل البطيئ ليس إلا، ولم تعد سجونًا بالمعنى الذي تعرفه البشرية، لا يشاركها في هذا الوصف إلا سجون الاحتلال في فلسطين، وليشهد التاريخ -وأصبحت تلك الحقيقة اليوم واضحة لكل ذي عينين- أن السجون العربية كانت قد امتلأت على مدار العقد الماضي استعدادًا لتطبيع الدول العربية كاملةً مع الكيان وتمهيدًا لـ”صفقة القرن“، تمامًا كما تجري الآن لا ينحرف تنفيذها عن المخطط المرسوم لها منذ عشر سنوات، وليشهد التاريخ أن السجون العربية في عيد الأضحى لعام ١٤٤٦ هجرية قد امتلأت بالألوف المؤلفة من العلماء الأتقياء والرجال الشرفاء والنساء الحرائر، خاصة الشباب الذين قادوا الحراك الشعبي بالأمس القريب ينادون فيه بنهضة هذه الأمة بين الأمم، وخاصة أصحاب الفكر والأدب والفقه والشعر والعلم والتعليم، وكل من فهم القضية الإسلامية على حقيقتها!

وليسجل التاريخ أن المسلمين في موسم الحج عام ١٤٤٦ هجرية يحجون بالملايين في المشاعر المقدسة، وهم على بعد ساعة واحدة بالطائرة من حيث يُقتل شعب فلسطين المسلم ويجوّع إلى الموت بمئات الآلاف، فلا يُسمح لحاج يقوم بجهاد النساء أن يدعو إلى جهاد الرجال، ولا حتى أن يجهر بالدعاء للمستضعفين من أمة محمد ﷺ، فالدعاء ممنوع في موسم الحج عام ١٤٤٦ هجرية لأنه تدخل في شؤون السياسة وسلطات ولاة الأمر! وليسجل التاريخ أيضًا أن الحج في عام ١٤٤٦ هجرية أصبح القائمون عليه يسمونه ”سياحة دينية“، وأصبحت ضرائبه من المكوس المفروضة تكلف ما لا يطيقه الفقراء ولا حتى متوسطو الدخل في بلاد الإسلام ولو كانوا من الذين يعيشون في البلاد المجاورة.

وليسجل التاريخ أن خطبة عرفات عامًا بعد عام أصبحت تُذكر فيها ”مقاصد الشريعة“ فارغة من مضمونها، ومقاصد الشريعة مما يقولون عنها براء، فيُذكر ”حفظ الدين“ دون أن تُذكر قبلة الإسلام الأولى، المسجد الأقصى الذي بدأ الاحتلال في خطوات هدمه وأعلن عنها رئيس وزرائهم بصراحة منذ أيام والمسلمين مجتمعين في موسم الحج! ويُذكر ”حفظ الدين“ دون أن تُذكر الخطط الممنهجة للتلاعب بعقائد الإسلام وأخلاقه وثوابته في بلاد المسلمين، ونشر الإلحاد والفواحش والزنا والخنا على بعد كيلومترات قليلة من حيث يقف الحجاج! ثم في ما وراءها من بلاد الإسلام.

وليسجل التاريخ أن خطبة عرفات عامًا بعد عام يُذكر فيها ”حفظ النفس“ دون أن تُذكر مئات الآلاف من نفوس الشهداء الذي قضوا في حرب الإبادة على فلسطين، وفي غيرها من بلاد المسلمين الذين قُتلوا ظُلمًا وطغيانًا خاصة في اليمن والسودان وسوريا والعراق وكشمير وغيرها، ويُذكر على صعيد عرفات ”حفظ النفس“ دون أن يُذكر لا القتل البطيئ الممنهج في السجون العربية لأنظف وأعلم وأشجع وأحكَم من أنجبت هذه الأمة، ودون أن يُذكر الذين تآمروا على قتلهم من حكام المسلمين المنافقين، بل يُدعى لهم على صعيد عرفات بالنصر والتأييد وطول العمر وحفظ الأولاد والأموال!

وليسجل التاريخ أن خطبة عرفات عامًا بعد عام يُذكر فيها ”حفظ العرض“ دون أن تُذكر المغتَصَبات من نساء المسلمين في سجون الاحتلال، بل وفي سجون البلاد العربية من زبانية نظم الطاغوت، ويُذكر على صعيد عرفات ”حفظ العرض“ دون أن يُذكر الأبطال المجاهدون الذين يدافعون عن عرض الأمة ومقدساتها ويحاولون استعادة أسراها وأسيراتها.

وليسجل التاريخ أن خطبة عرفات عامًا بعد عام يُذكر فيها ”حفظ المال“ دون أن تُذكر التريليونات -وهي بالمناسبة ملايين الملايين- التي دفعها أمراء العرب جزيةً للمحتلين الغزاة لكي يُبقوهم على كراسيهم، بل وبعضهم دفعها على شرط أن يكملوا المَهمة بقتل إخوانهم وأخواتهم في فلسطين حتى لا تقوم لغرمائهم من ”الإسلاميين“ -كما يسمونهم- قائمة، و يُذكر ”حفظ المال“ على صعيد عرفات دون أن يُذكر الإنفاق ببذخ من أموال المسلمين العامة على القصور واليخوت وملاعب الغولف الخضراء والسرف والترف والحفلات الماجنة والجواري والندماء والراقصين والراقصات واللاعبين واللاعبات والزنديقين والزنديقات، في الوقت الذي يموت فيه أطفال المسلمين جوعًا وعطشًا على بعد ساعة بالطائرة في فلسطين والسودان واليمن وغيرها من بلاد المسلمين.

ولكننا -أخيرًا- نُشهد الله تعالى أننا رغم الألم نستقبل يوم الحج الأكبر دون يأس من رحمة الله، بل بوجه بشوش وأمل عريض وأكفّ مرفوعة ضارعة إلى الله تعالى. اللهم استعملنا ولا تستبدلنا. اللهم نصرك الذي وعدت هذه الأمة الشهيدة على الناس. اللهم مكّن لأهل الجهاد في أمة الحبيب محمد ﷺ من تحرير المسجد الأقصى المبارك، وضرب المعول الأخير في وثن الحضارة الطاغية المعاصرة.

اللهم يسر لهذه الأمة أمر رشد وخير يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر. اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائنا ونعوذ بك من شرورهم. اللهم بدد شملهم وفُلّ حدّهم وفرّق جمعهم وشتت كلمتهم وأدل دولهم. اللهم انصر من نصر دين محمد واجعلنا منهم، واخذل من خذل المجاهدين من أمة محمد ولا تجعلنا معهم. اللهم يا منزل الكتاب ويا مجري السحاب ويا هازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وكل عام والمؤمنين الصادقين من أمتنا بخير.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
عرفة والأضحى في ظلال طوفان الأقصى

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع