نماذج علمائية ملهمة (44): الإمام الحافظ "ابن أبي
الدنيا" رحمه الله
بقلم: د. علي محمد
الصلابي
الأمين العام للاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين
هو
الإمام الحافظ والمحدث، والأديب المؤرخ، والعالم الصدوق، صاحب التصانيف الكثيرة
والمفيدة، العالم المفسر، الورع الزاهد، عميق المعرفة في العلوم والفنون، أبو بكر
عبد الله بن عبيد بن أبي الدنيا (رحمه الله).
أولاً: اسمه ونسبه:
أبو بكر
عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس القرشي، مولى بني أمية البغدادي الحنبلي
المعروف بابن أبي الدنيا. قيل له "القرشي"؛ لأنه مولى بني أمية. ويذكره
العلماء بالإمام، الحافظ المحدِّث، العالم الصَّدوق المُؤدِّب. (العبر، للذهبي، جج2 ص181)
ثانياً: مولده ونشأته:
ولد
الحافظ الجليل، ابن أبي دنيا بمدينة بغداد في أوائل القرن الثالث الهجري، سنة (208
ه). وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: وبلغني أن مولده كان في سنة ثمان ومائتين،
وكذا قال الذهبي في تذكرة الحفاظ. ويعد القرن الثالث الهجري عصر النهضة الفكرية، ففي
تلك الحقبة نشطت حركة التراجم والإبداع الأدبي. وكان هذا عاملاً رئيسياً في بلورة
فكر ابن أبي الدنيا وتهذيبه.
ونشأ في
بيت علم وفضل، فأبوه من رواة الأخبار وكان من علماء الحديث الذين أخذ عنهم ابن أبي
الدنيا، فكان والده حريصاً على توجيهه لطلب العلم على بعض المحدثين والسماع منهم
وهو في مقتبل شبابه، فقد ذكر الذهبي أن أقدم شيخ له هو سعيد بن سليمان الواسطي
وكان ابن أبي الدنيا في الثانية عشرة من عمره، وكأنه في هذا الوقت توجَّه -ولعله
بتوجيه والده- لأدب الحديث وللتهذيب، فكان يصحب البرجلاني، وهو
صاحب التآليف في الزهد والرقائق (المنهل الروي لابن جماعة، ص١٠٥).
وكنتيجة
للبيئة التي عاش فيها فإنه حرص على طلب العلم وهو دون العاشرة. فأتيحت له الفرصة
في سماع جهابذة حفاظ الحديث وسنه دون العاشرة، فكان ما يميزه كثرة الأخذ عن الكثير
من المشايخ والحفاظ، فقد تعدى عدد مشايخه المائتين بكثير.
وقد أثّر
ابن أبي الدنيا تأثيراً واضحاً في مجتمعه من خلال مؤلفاته القيمة في مجال الأخلاق
والزهد والرقاق، وعرف بتربية أولاد الخلفاء.
أخذ
الحافظ ابن أبي الدنيا يساهم في الحركة الإصلاحية التي استهدفت إصلاح أخلاق
المجتمع من حوله، وقد استطاع أن يحقق ذلك من خلال مؤلفاته الرائعة. (الإخوان، ابن
أبي دنيا، ص4).
ما رواه
الخطيب البغدادي في تاريخه بإسناده عن إبراهيم الحربي قال: "رحم الله أبا بكر
بن أبي الدنيا، كنا نمضي إلى عفان نسمع منه، فترى ابن أبي الدنيا جالساً مع محمد
بن الحسين البرجلاني خلف شريحة، فقال: تكتب عنه وتدع عفان". (تاريخ بغداد، البغدادي،
١٠/٨٩)
ثالثاً: طلبه للعلم ورحلاته:
لم يشتهر ابن أبي الدنيا رحمه اللَّه بالرحلة
في الطلب، بل كان كما قال الذهبي: "قليل الرحلة"، وفي
هذا يقول الدكتور نجم عبد الرحمن خلف، بعد تتبع لمشايخه، والنُّتَف المنثورة في
سيرته: "لم يرحل خارج العراق إلا لأداء فريضة الحج، فكان معظم سماعه ببغداد،
سواء من شيوخها النازلين بها، أو من الشيوخ الوافدين عليها من البلاد الأخرى،
فتكون رحلاته ضمن حدود العراق كالبصرة والكوفة والموصل".
ولعل من هذا القول بأنه اكتفى بمن في
بلده (بغداد) من أئمة كبار ومحدثين إضافة إلى من زارها ونزل
بها من غيرهم، كان استغناؤه بهم عن الرحلة أمراً لا يقدح في اجتهاده في العلم
وحرصه عليه، والدليل على ذلك هو واقع مروياته الواسعة المنوعة والمودعة في تآليفه
الكثيرة جدًّا. (سير أعلام النبلاء،
الذهبي، ص١٣/ ٣٩٩)
وبهذا نشأ (رحمه اللَّه) في كنف أئمة علماء
السنة، من محدثين ولغويين وأهل سير وتاريخ وزهاد وعباد. وتتلمذ على أئمة كبار،
ونهل من معينهم وروى عنهم، وكان الغالب على كل واحد منهم حيازة السبق في ميدانه
وميادين أخرى كثيرة، بحيث استطاع رحمه اللَّه تكوين شخصيته العلمية الفذة
المتميزة، التي مكنته من تبوّأ مكانة علمية مرموقة، علمًا وعملاً وتأليفاً. (هدية
المغيث في أمراء المؤمنين في الحديث، لمحمد الشنقيطي، ص٢٤)
فقد لازم الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة،
وروى عن الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث، والذي قال عنه ابن حجر:
"جبل الحفظ، وإمام الدنيا في فقه الحديث، ولازم أبا عبيد القاسم بن سلام،
وابن سعد صاحب الطبقات، وابن الجعد صاحب المسند، وخلف ابن هشام أحد القراء العشرة،
وجميع هؤلاء متقدمو الوفاة، وهم جميعاً أصحاب علم متنوّع، وأدب وزهد، وبصيرة وإمامة.
(طريق الهجرتين، لابن القيم، ص١٩٥)
رابعاً: عقيدته ومذهبه:
إن ابن
أبي دنيا (رحمه الله) كان سلفي المعتقد، على طريقة الصحابة والتابعين، متبعاً لهم،
معظماً لآثارهم، جامعاً لأقوالهم، وناصراً لمذهبهم، وهذا يدرك بالنظر أولاً إلى
شيوخه الذين تتلمذ عليهم، فهم ليسوا فقط على مذهبهم، بل أئمة فيه، أصحاب القدم
الراسخة والقدح المعلَّى، ولو لم يكن إلا إمامهم الإمام أحمد الذي يلقب بإمام أهل
السنة والجماعة، والبخاري صاحب الصحيح، إضافة إلى العدد الكبير الذي ألفه من الكتب
سواء المطبوع والمخطوط منها أو المفقود، أما المطبوع والمخطوط فيوجد فيها مخبآت
وأقوال فريدة وفوائد عديدة في عقيدة السلف، وأما المفقود فيلحظ من عناوينها اهتمام
هذا الإمام بعقيدة السلف وحرصه على تدوينها ونشرها.
وكانت
كتبه الموجود
منها والمفقود تسفر عن توجه عقدي سليم، ونصرة لمذهب السلف وبيان له في مثل هذه
القضايا العقدية الخطيرة، فلا تكاد تجد مفرداً من مفردات مقرر العقيدة إلا وله
تأليف مستقل فيه، وعنوان بارز عليه، وإذا عرفت أن تآليفه رحمه اللَّه كلها منقولات
عن السلف وذكر لتقريراتهم وأقوالهم في الباب المفرد، ناهيك عن جمعه لما ورد في كل
باب من الآيات والأحاديث المسندة، ظهر ما ذكرته.
وقد
اشتهر عن ابن أبي الدنيا رحمه اللَّه أن كتبه وعظية زهدية، يغلب عليها طابع
التصوف. (الآثار المروية، حميد نعيجان، ص52).
خامساً: ثناء العلماء عليه:
قال ابن
الأثير: «صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة».
قال
السمعاني: «كان ثِقَةً صَدوقًا، مُكثِرًا من التصانيف في الزهد والرقائق».
قال
المزي: «الحافظ صاحب التصانيف المشهورة المفيدة».
قال
الذهبي: «المحدث العالم الصَّدوق». وقال: «كان صَدوقًا أديبًا أخباريًّا كثير
العلم».
قال ابن
القيم: «وكان يُقال: ابن أبي الدنيا مَلأَ الدُّنيا عِلمًا».
قال ابن
كثير: «الحافظ المصنف في كل فنٍّ، المشهور بالتصانيف الكثيرة النافعة الشائعة
الذائِعة في الرقائق وغيرها... وكان صَدوقًا حافظًا ذا مُروءةٍ».
قال ابن
حجر: «صدوقٌ حافظٌ صاحب تصانيف». وقال أيضًا: «الحافظ صاحب التصانيف المشهورة».
سادساً: وفاته:
توفي
رحمه الله يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة (٢٨١ هـ)، ويقال: في جمادى الأولى، هذا على
أولى الأقوال بالصواب (فوات الوفيات، للصفدي، ج1
ص494)
وهناك
قول آخر يبتعد بها إلى سنة (٢٩٠هـ)، فقد ذكر الذهبي، والديار بكري، أن عُمره حين
وفاته كان نيفاً وثمانين سنة، وهذا يفيد أنه عاش إلى حدود سنة (٢٩٠هـ). (العبر، للذهبي، مرجع سابق، ج1 ص404)
المراجع:
· العبر
في خبر من غبر ويليه ذيول العبر، شمس الدين الذهبي (1960)، تحقيق: صلاح الدين المنجد،
دائرة المطبوعات والنشر (الكويت).
· المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي، لابن
جماعة، دار الفكر – دمشق، ط1، 1406هـ، تحقيق: د. محييي الدين عبد الرحمن رمضان
·
الأخوان،
للإمام ابن أبي دنيا، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1409 هـ - 1988م، تحقيق:
مصطفى عبد القادر عطا.
·
تاريخ
بغداد، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، دار الغرب الإسلامي –
بيروت، ط1، ١٤٢٢ هـ -
٢٠٠٢ م، تحقيق: د بشار عواد معروف.
·
سير
أعلام النبلاء، لشمس الدين الذهبي، مؤسسة لرسالة، ط1، 1414هـ - 199م، إشراف
شعيب الأرنؤوط.
· هدية المغيث في أمراء المؤمنين في الحديث لمحمد
حبيب الشنقيطي، دار البشائر الإسلامية، ط1، 410هـ - 1989م، تحقيق: رمزي دمشقية.
·
طريق
الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم، دار ابن القيم – الدمام، ط2، 1414هـ -
1994م، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر.
· فوات الوفيات والذيل عليها، ابن شاكر، تحقيق: إحسان
عباس، بيروت - دار صادر