البحث

التفاصيل

المحنة والفرصة: رؤية فكرية لإعادة بناء الأمة

الرابط المختصر :

المحنة والفرصة: رؤية فكرية لإعادة بناء الأمة

بقلم: أ. د/ محمد دمان ذبيح

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

      الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد. 

    إن تصاعد الأحداث مؤخرا مع الكيان الغاصب لتحمل في حقيقتها وجوهرها العديد من الفرص، بل أقول من المنح التي وضعت في طبق من ذهب كما يقال لهذه الأمة التي عانت الكثير والكثير من الويلات، والهزائم على مستوى جميع الأصعدة، فرب ضارة نافعة، ورب محنة تحمل في طياتها منحة.

    وعلى الأمة الإسلامية اليوم أن تكون في مستوى الحدث، أو في مستوى استغلال هذه الفرصة لصالحها، وذلك من خلال زاويتين اثنتين وهما:

الزاوية الأولى: توحيد الكلمة

   وذلك امتثالا لقول الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103]، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى "[1].

   وأقصد بتوحيد الكلمة هنا تلك العملية الإيجابية التي تجمع كل الأطياف والألوان في دائرة واحدة بعيدة كل البعد عن النظرات الضيقة، والأفكار الميتة والمميتة، واضعة مصلحة الإسلام والمسلمين فوق كل اعتبار، وصدق سلمان الفارسي رضي الله عنه عندما قال:

أبي الإسلام لا أب لي سواه  **  إذا افتخروا بقيس أو تميم

    ولا شك أنها القوة الحقيقية التي تقف في وجه العدو، الذي يسعى كما نعلم جميعا إلى تشتيت الأمة ، وتمزيقها، وتقسيمها إلى دويلات متناحرة ليتسنى له بعد ذلك تحقيق أهدافه الهدامة، وتجسيد مخططاته الخبيثة، التي تأتي على الأخضر واليابس معا، وهذا ليس جديدا عليه، فهو من أعماله، ووسائله المعروف بها حتى في زمن التشريع، فقد روى الطبري بسنده وغيره عن زيد بن أسلم قال: "مر شاس بن قيس -وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة -يعني الأنصار الأوس والخزرج- بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا من يهود وكان معه فقال له: اعمد إليهم فاجلس معهم فذكرهم يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، وقال بعضهم لبعض: إن شئتم رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان وقالوا: قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الحرة فخرجوا إليها وتحاوز الناس على دعواهم التي كانت في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين الله الله.. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟! فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس.

    فأنزل الله تعالى في ذلك: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران:98، 99].

    وأنزل في الأوس والخزرج: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران:100، 101].[2]"

    ونموذج شاس بن قيس كان ولايزال وسيبقى موجودا وحاضرا بين صفوف المسلمين، يستخدم كل وسيلة تحقق له غايته الخبيثة من زرع الفتنة، والخلاف بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، فهل وعت أمتنا الدرس أم لا؟

الزاوية الثانية: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل

  قال الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60].

    وحول هذه الآية القرآنية قيل: "إنه لما اتفق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة أمرهم الله أن لا يعودوا لمثله وأن يعدوا للكفار ما يمكنهم من آلة وعدة وقوة، والمراد بالقوة ههنا: ما يكون سببا لحصول القوة وذكروا فيه وجوها:

الأول: المراد من القوة أنواع الأسلحة.

الثاني: روي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر وقال: "ألا إن القوة الرمي" قالها ثلاثا.

الثالث: قال بعضهم: القوة هي الحصون.

الرابع: قال أصحاب المعاني: الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة، وقوله عليه الصلاة والسلام: "القوة هي الرمي" لا ينفي كون غير الرمي معتبرا، كما أن قوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة " و "الندم توبة" لا ينفي اعتبار غيره، بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود فكذا ههنا، وهذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعليم الفروسية والرمي فريضة، إلا أنه من فروض الكفايات.

وقوله: (ومن رباط الخيل) الرباط المرابطة أو جمع ربيط، كفصال وفصيل، ولا شك أن ربط الخيل من أقوى آلات الجهاد، روي أن رجلا قال لابن سيرين: إن فلانا أوصى بثلث ماله للحصون، فقال ابن سيرين: يشترى به الخيل فتربط في سبيل الله ويغزى عليها، فقال الرجل: إنما أوصى للحصون، فقال: هي الخيل، ألم تسمع قول الشاعر: ولقد علمت على تجنبي الردى أن الحصون الخيل لا مدر القرى"[3].

    اعلمي يا أمة الإسلام أن من القوة، ومن رباط الخيل اليوم طبعا إلى جانب القوة الإيمانية والأخلاقية، كل أنواع الأسلحة الحديثة التي تجعل عدوك يحسب لك ألف حساب، ولا يتجرأ أبدا على قتالك، أو حتى مجرد التفكير في ذلك، هذا فضلا عن القوة الاقتصادية التي تعني الاكتفاء الذاتي، والتنمية المستدامة بأبعادها المختلفة، وأيضا القوة التكنولوجية والتي تعني مسايرة الواقع بأساليب حديثة متطورة، وبمهارة وكفاءة عالية تحقق الهدف على أكمل صورة في المجالات والميادين.

     إن الأحداث الأخيرة يا أمة الإسلام بينت بما لا يحتاج إلى دليل أو برهان أننا نعيش في عالم لا يؤمن إلا بمنطق القوة، ولقد قلتها مرارا " لا عدل إلا إذا تعادلت القوى "، ولا مكانة للضعيف، ولا معنى لتنديده، أو إنكاره، ولعلها الرسالة التي أرادها الشيخ الشعراوي رحمة الله تعالى عليه عندما قال: "من أراد أن تكون كلمته من رأسه فلتكن لقمته من فأسه".

    تحركي يا أمة الإسلام وتغيري الآن خاصة من الزاويتين السابقتين فهما مكمن القوة الحقيقية التي تعيد لك عزتك ، وكرامتك، وشرفك الذي لا يقدر بثمن ، وإنها فرصتك الذهبية اغتنميها، ولا تضيعيها، قال إبراهيم الفقي رحمه الله تعالى: "لا تنتظر أن تسنح لك الفرصة غير العادية، بل انتهز الفرصة العادية، واجعلها عظيمة.."

وإذا ضيعنا الفرصة يا أمة الإسلام فلنتذكر قول الفراهيدي:

وعاجز الرأي مضياعٌ لفرصته  **  حتى إذا فاته أمرٌ عاتب القدرا

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* أ. د/ محمد دمان ذبيح؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أستاذ بجامعة محمد العربي بن مهيدي أم البواقي – الجزائر.

 



[1] - رواه البخاري برقم  6011.

[2] - انظر الصالحي ، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، ج03، ص : 399.

[3] - للمزيد انظر الرازي ، التفسير الكبير ، ج 15، ص : 148.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
أثر الحرب على المنطقة والدول المسلمة "قراءة في المآلات والموازنات الشرعية"
السابق
خطيب الأقصى: الاحتلال يغلق المسجد الأقصى بالكامل في تصعيد عدواني ضد حرية العبادة.

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع