البحث

التفاصيل

الهجرة النبوية واستراتيجية الطوفان

الرابط المختصر :

الهجرة النبوية واستراتيجية الطوفان

في ذكرى الهجرة النبوية


مع إشراقة شهر محرم الحرام، وفي مطلع العام الهجري الجديد 1447هـ، نستحضر الهجرة النبوية الشريفة، لا باعتبارها حدثًا تاريخيًا فحسب، بل كنموذج متجدد للتحول الاستراتيجي، والتخطيط الهادف، وبناء مشروع حضاري متكامل. فقد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة نقلة مفصلية من الاستضعاف إلى التمكين، ومن مرحلة البلاء إلى مرحلة البناء.

لقد جسّدت الهجرة النبوية منهجًا نبوياً في إدارة التغيير، وتخطيطًا دقيقًا لتحقيق النصر، وبناءًا متينًا لمجتمع العقيدة، بما يحمله ذلك من دلالات عميقة لا تزال تتجدد في واقعنا المعاصر، ولا سيّما في ملحمة "طوفان الأقصى"، التي جاءت امتدادًا للروح الإيمانية والجهادية نفسها، وسعيًا نحو تحرير القدس وبناء مشروع مقاومة شاملة.

vالهجرة: استراتيجية نبوية للنهوض

لم تكن الهجرة النبوية هروبًا من الاضطهاد أو استسلامًا للأمر الواقع، بل كانت تحولًا استراتيجيًا مدروسًا، نُفِّذ بأعلى درجات التخطيط والوعي والبصيرة. فهي لم تأتِ ردّة فعل عاطفية، بل كانت تكليف وأمر الاهي من رب العالمين وواجب وفريضة من الله سبحانه وتعالى، اعتمدت على توزيع الأدوار، والتخطيط الدقيق، وتوظيف الطاقات والكفاءات من الرجال والنساء، واختيار الزمان والمكان بعناية فائقة. حيث شارك في هذه الخطة الجليلة عدد من الصحابة والصحابيات، لقد مثّلت الهجرة بذلك نموذجًا خالدًا في فقه التمكين وإدارة التحولات في حياة الأمة، ومثلت نقطة الانطلاق لبناء دولة الإسلام في المدينة.

وهذا المنهج النبوي في التعامل مع الأزمات وتوجيهها نحو النهوض، تتجلى ملامحه اليوم بوضوح في ملحمة "طوفان الأقصى"، التي لم تكن حدثًا عسكريًا عابرًا، بل خطة محكمة تحمل أبعادًا استراتيجية بعيدة المدى، أُحسن فيها استخدام الإمكانات، وتوفرت فيها عناصر السرية والمباغتة والانضباط، مما جعلها تعبيرًا حديثًا عن السنن التي قادت النبي ﷺ إلى التمكين.

فكما كانت الهجرة تحولًا من مرحلة الاستضعاف إلى مشروع البناء، فإن "طوفان الأقصى" هو أيضًا تحوّل واعٍ من الحصار إلى المبادرة، ومن رد الفعل إلى الفعل، ومن انتظار الحلول إلى صناعتها، بما يؤكد أن سنن النصر لا تزال فاعلة، حين تحيا فينا روح الهجرة.

vمشتركات الهجرة والطوفان: من الاستضعاف إلى الفعل

طوفان الأقصى

الهجرة النبوية

كسر لحالة الحصار وتغيير قواعد الصراع

انتقال من الاستضعاف إلى بناء الدولة

قيادة مقاومة موحدة تدير المعركة بعقيدة وثقة

قيادة موحَّدة تتحرك وفق رؤية ربانية

توحيد فصائل وتيارات خلف هدف التحرير

تحالفات مدنية ودينية لبناء المجتمع الجديد

الاستعداد للتضحية من أجل مشروع طويل المدى

تغليب المصلحة الكبرى للأمة على الأذى الآني

نقلت الهجرة النبوية النبي ﷺ وأصحابه من ضيق الاستضعاف إلى سعة التمكين، ومن مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدعوة والدولة وبناء أمة ذات مشروع ورسالة. لم تكن مجرد خروج من واقع صعب، بل كانت بوابة لانطلاق حضاري شامل، بدأت بركيزة الإيمان وانتهت ببناء دولة تجمع العقيدة والسياسة والمجتمع تحت راية واحدة. وبذات الروح، جاء "طوفان الأقصى"، لا كفعل عسكري محدود، بل كرؤية تحررية واعية، تنطلق من الإيمان بعدالة القضية وتستند إلى تخطيط استراتيجي بعيد المدى.

لقد أعاد الطوفان الاعتبار لفلسطين كقضية مركزية للأمة، وأثبت أن الفعل المقاوم لا يزال قادرًا على إعادة تشكيل المشهد الميداني والسياسي، وتجاوز معادلات التراجع والانتظار إلى مرحلة المبادرة والتأثير. إنه، كما كانت الهجرة، لحظة تحوّل كبرى، تنقل الأمة من ركام الألم إلى بزوغ الأمل، ومن ردود الفعل إلى صنع المبادرات.

vالهجرة تُلهم واقعنا: دروسا حية في زمن الأزمات

إن الهجرة النبوية لم تكن مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل كانت مدرسة متكاملة في فنّ النهضة وبناء الإنسان والمجتمع، وهي لا تزال تلهم أجيال الأمة، خاصة في ظل الأزمات الكبرى التي تعصف بها اليوم، وعلى رأسها قضية فلسطين والقدس. وفي ضوء الهجرة و"طوفان الأقصى"، تتجلّى دروس عظيمة يمكن أن تُلهِم جيل النصر:

1.    الرؤية الشاملة والتخطيط الواعي

 

لم تكن الهجرة عشوائية، بل تحرّك نبويّ ضمن رؤية واضحة لبناء مجتمع جديد، تتكامل فيه العقيدة مع الدولة. وكذلك كان "طوفان الأقصى"، الذي لم يأتِ كردّ فعل عاطفي، بل كمبادرة محسوبة، بنيت على اختيار التوقيت، وضبط الرسالة، وحسن إدارة الموارد. فمشروع التمكين لا يقوم على الانفعال، بل على البصيرة والتخطيط.

2.     الإيمان المحفّز على العمل

قال النبي ﷺ لأبي بكر في الغار: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما". لم يكن الإيمان مبررًا للانتظار أو التراجع، بل كان قوة دافعة للاستمرار، مهما اشتد الخطر. وهكذا هو حال المجاهدين في غزة، الذين يحملون قلوبًا يملؤها اليقين بنصر الله، رغم شدة البلاء، لأنهم يدركون أن الإيمان الحق لا يُترجم بالركون، بل بالحركة والثبات.

3.     بناء الإنسان قبل العمران

أسّست الهجرة جيلًا ربانيًا يحمل القيم قبل الشعارات، والمبادئ قبل المشاريع. فقدّم الأنصار ديارهم وأنفسهم نصرةً للدين. وهذا ما تصنعه المقاومة اليوم، وهي تربي جيلًا يجمع بين العقيدة والوعي، بين القرآن والسلاح، بين الإيمان والإعداد، لأنها تدرك أن تحرير الأرض يبدأ من تحرير الإنسان.

4.     الثبات في وجه المحن

ما بين لحظة الغار ولحظة الحصار في غزة، خيط واحد من الثقة برب العالمين. ففي اللحظات الحرجة، حيث تبدو الخيارات معدومة، يظهر معدن الثابتين، أولئك الذين يتجاوزون الخوف بالتوكل، واليأس بالأمل. وكما ثبت النبي ﷺ وصاحبه، يثبت اليوم المقاومون والمقاومات في وجه آلة البطش، وعيونهم على وعد الله الذي لا يخلف الميعاد.

vخاتمة: النصر لا يُنال بالأمنيات، بل بالتضحيات

ليست الهجرة النبوية حدثًا نحتفي به كل عام فحسب، بل هي رسالة حية ومنهج رباني للتغيير والصمود والتحرير، تتجدد مع كل جيل مؤمن بقضيته، وواعٍ بسنن النصر والتمكين. وكما كانت الهجرة نقطة التحول من الاستضعاف إلى بناء الدولة، فإن طوفان الأقصى هو صفحة من صفحات هذه المسيرة الممتدة، التي تؤكد أن النصر لا يُمنح بالتمنّي، بل يُنتزع بالتخطيط والتضحية والثبات. إن ما بدأه النبي ﷺ في مكة، وبناه في المدينة، يتواصل اليوم في ميادين غزة، وساحات القدس، وأروقة المقاومة في قلوب الأمة، حيث لا يزال الأمل حيًّا، والمشروع قائمًا، والإيمان راسخًا بأن وعد الله حق، وأن الأمة التي تعيش الهجرة روحًا، وتستلهمها نهجًا، قادرة بإذن الله على أن تصنع فجر النصر مهما طال ليل الاحتلال.

صادر عن لجنة القدس وفلسطين – الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

٣ محرم ١٤٤٧هـ الموافق 28 يونيو 2025م


: الأوسمة


المرفقات

السابق
أساليب قريش في محاربة المهاجرين ومشاهد العظمة في الهجرة (2)

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع