البحث

التفاصيل

الهجرة وصناعة الأمل

الرابط المختصر :

الهجرة وصناعة الأمل

كتبه: د. عاطف خوالدية

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

وقد تُثار في النفس تساؤلات واندهاشات عدة عن أحداث السيرة، فما المعنى في أن يترك العبد دياره وأرضه التي نشأ فيها وفيها ذكرياته؟ وما المعنى أن يهجر الإنسان أهله وماله وعشيرته لينزل أرضًا جديدة لا يعرفها بلا مال ولا مأوى ولا عشيرة؟ بل وما المعنى في أن يَدَعَ أبناءه وزوجته ووالديه وأهله بين ظهراني أعدائه ليفر بنفسه إلى أرض قد لا يلقى فيها قبولًا ولا ترحيبًا؟

إنه لا معنى لكل ذلك سوى الإسلام - دين الله تعالى الذي يهون بجانبه كل غالٍ وعزيز؛ فمهما عزَّت الأوطان والديار، فالإسلام أعزُّ، ومهما تعلقت القلوب بالأبناء والزوجات، فإن تعلقها بالإسلام أشد، ومهما قويت الأموال والعشيرة، فالإسلام أقوى وأمنع.

لقد أدرك مسلمو الجيل الفريد أن حياتهم في الإسلام هي الحياة الحقيقية، وأن قوتهم في الإسلام لا فيما سواه، وأن اطمئنان قلوبهم وراحة أفئدتهم في الإسلام لا فيما سواه، وأن عزهم وشرفهم في الإسلام لا فيما سواه، وأن وجودهم مرهون بوجود الإسلام، وأنه لا الأولاد، ولا الأموال، ولا الأوطان، ولا التراب أولى بتضحية الإنسان بنفسه من الإسلام.

لذا كانت غاية آمالهم أن يكونوا جسرًا يعبر عليه الناس إلى دين الله أفواجًا؛ لذا لم يتمكن منهم عدوهم في تاريخِهم كله، بل كان أعداؤهم أشد خوفًا منهم على ضعف أجسامهم وقوتهم، وقلة حيلتهم ونقص عتادهم، فكانوا يواجهون الموت بقلوب قوية، يواجهونه ولا يخشونه، بل كان أحدهم يسعى إليه سعيًا.

إن التاريخ السنوي لم يكن معمولًا به في أول الإسلام حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته رضي الله عنه كتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول له: "إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ"، فجمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم فيقال: إن بعضهم قال: "أرِّخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها، كلما هلك ملِكٌ، أرخوا بولاية من بعده، فكرِه الصحابة ذلك، فقال بعضهم: أرخوا بتاريخ الروم، فكرهوا ذلك أيضًا، فقال بعضهم: أرخوا من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: من مبعثه، وقال آخرون: من مهاجره، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل؛ فأرخوا بها، فأرخوا من الهجرة واتفقوا على ذلك، ثم تشاوروا من أي شهر يكون ابتداءً السنة

فقال بعضهم: من رمضان؛ لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن.

وقال بعضهم: من ربيع الأول؛ لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرًا، واختار عمر وعثمان وعليٌّ أن يكون من المحرم؛ لأنه شهر حرام يلي ذي الحجة الذي يؤدي فيه المسلمون حجهم الذي به تمام أركان الإسلام، والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم، والعزيمة على الهجرة، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر الحرام، وحصل إجماعٌ من الصَّحابة الكرام على ذلك.

فصارت حادثة الهجرة النبويَّة منطلَقًا للتَّاريخ العربيِّ الهجريِّ.

الهجرة أنواع؛ فنبيُّنا صلى الله عليه وسلم قد هاجَرَ من مكان لمكان من أجل دعوة ربِّه ورسالته التي حملها، فما علينا إلا أن نهاجرَ على الأقل بأعضائنا ونوايانا؛ هجرة القلب إلى الله، وهذه فريضة عامة لا يُعذر منها مسلم.

إنها هجرة النُّفوس قبل البيوت، إنها هِجرة القلوب قبل القصور، هجرة للأعضاء؛ ليكون للذكرى أثر في الحياة والتغيير إلى الأفضل.

فتهجر أعينُنا النظر إلى الحرام وتتخلق بخُلُق النبي الكريم.

وتهجر أسماعُنا الإنصات إلى الحرام أو التلذُّذ بكلمات خبيثة نابية، فلا تستمع إلا إلى الحلال الطيب، وهكذا كل أعضائنا تجتهد أن تهاجر إلى الله ربها.

قال تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 5].

وقال صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)).

وهجرة العصاة ومجانبة مخالطتهم: قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ [المزمل: 10].

وهجرة للنوايا والقلوب والإخلاص في التوجه إليه في السر والعلانية بأن ينوي الإنسان أنه مهاجر إلى الله من الذنوب إلى التوبة، حتى إذا أدركته المنيَّة، فليقع أجره على الله.

إذاً فالمطلوبُ مِن كلٍّ منَّا أن يهاجر:

يهاجِر مِنَ المعصية إلى الطاعَة.

مِن الفردية الأنانية إلى الجَماعة.

مِن الكسل إلى العمل.

مِن القنوط إلى الأمَل.

مِن الضَّعْف إلى القوَّة.

ومِن التسفُّل إلى القِمة.

مِن الذلَّة إلى العِزَّة.

من الحِصار إلى الانتشار.

ومِن الانكسارِ إلى الانتِصار.

مِن الانكفاءِ على الذات إلى الاهتمامِ بشأن المسلمين.

مِن التعصُّب للرأي إلى النزولِ علَى الشورى.

مِن مصلحة الفرْد إلى مصلحةِ المَجْموع.

مِن حياةِ الهوان والحِرْمان إلى حياةِ الإيمان والإحسان.

وهكذا نجِدُ أنَّ الهِجرةَ سلوكٌ واجب ومستمرٌّ علينا أن نباشِرَه ونمارسَه على كلِّ المستويات وفي جميعِ الأوقات، وأخلاقٌ عالية وقِيَم رفيعة يجب أن نَحْياها ونعيشها.

 سطِّر صَفحات حياتك بصلاة فجر، وقيام ليل، وقراءة قرآن، وطاعة والِدَيْن، وحُسن جُوار، وأمرًا بمعروف، ونهيًا عن مُنكَر، وإحقاقَ حقٍّ، وإبطالَ باطلٍ،

لا تَظلِم نفسك بالقعود، بالجلوس، بالركون، بالسكون، وإلا كنت من أهل هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97].

لا تَبقَ مع العصاة والمقصرين المذنبين أو المُنافِقين أو الكذَّابين، اهجُرهُم؛ إنها الهجرة بمعناها الواسع، ولا تَبقَ مع المطبلين والمطبعين والمرجفين

 فإنهم باعوا دينهم ودنياهم وضمائرهم.

إن الهجرة مشروع أمة ولا يصلح أن يقوم به أفراد مكان أفراد فلابد على الأمة أن تستفيد من دروس الهجرة وتجعل هذه المناسبة مناسبة تغيير المفاهيم والوقوف على معضلات وداء الأمة لتعود قوية مسموعة الكلمة   ومحفوظة الجانب.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا في غزة وسائر بلاد المسلمين.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

*  كتبه: د. عاطف خوالدية؛ أستاذ بالمعهد الأوروبي بباريس، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
قطر الخيرية تطلق "رحلة نحو نور القرآن" في بنغلاديش لتعزيز التعليم القرآني للأطفال

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع