البحث

التفاصيل

من وحي غزة و عاشوراء .. آلاء النجار وصناعة التاريخ

الرابط المختصر :

من وحي غزة و عاشوراء .. آلاء النجار وصناعة التاريخ

بقلم: أ د. محمد دمان ذبيح

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

      الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد.. 

    إن الأحداث تتسارع في بلدنا الحبيب "غزة" دموعا وآلاما ومعاناة، وفي الوقت نفسه ترى، وتسمع الصور المشرفة التي تذكرك بزمن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، والتي نتعلم منها الرجولة، والمروءة، والشهامة، والشرف والعرض، في زمن بيعت فيه هذه المصطلحات بثمن بخس دراهم معدودة، وكان السواد الأعظم من الناس فيها من الزاهدين.

وصدق نزار عندما قال:

وقبـر خالد في حـمصٍ نلامسـه *** فـيرجف القبـر من زواره غـضبا

يا رب حـيٍ.. رخام القبر مسكنـه *** ورب ميتٍ.. على أقدامـه انتصـبا

يا ابن الوليـد.. ألا سيـفٌ تؤجره؟ *** فكل أسيافنا قد أصبحـت خشـبا

     إن مما اتفقت عليه الأيام والسنون أن التاريخ لم ولن يصنعه أبدا الفاشلون من الناس، أو من كانت همته دنيئة لا تتجاوز المأكل والمشرب والملبس، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾ [محمد،12]

    إن التاريخ من صنع رجال تميزوا عن غيرهم همة وفكرا، تصورا وعملا، فكتبوه بمداد التضحية، والصمود، ودماء العظمة، والخلود، وصدق الأديب الفرنسي عندما قال: "جميع النساء قد يلدن الذكور..  ولكن المواقف وحدها تلد الرجال".

إنه الكلام الذي ينطبق بحذافيره على امرأة اسمها " آلاء النجار "، الطبيبة المكلومة، التي قصف العدو منزلها الواقع في منطقة قيزان النجار، جنوبي محافظة خان يونس، تقول شقيقتها "سحر النجار"، صيدلانية من قطاع غزة: "أقول لها من هول الصدمة: الأولاد راحوا يا آلاء، فتجيبني بإيمان وتسليم: "هم أحياء عند ربهم يرزقون".

وتتمة لوصف هذا الحادث الأليم مضت تقول: "أمهم في حالة صدمة، ولا أخشى عليها سوى من لحظة الانهيار التي ستلحق بلحظات الصمود التي تمر بها ، تسعة فراشات أكبرهم عمره 12 عاما، وأصغرهم ستة شهور جميعهم (الأطفال الكبار) حافظون لكتاب الله تعالى ، والفرق بين كل منهم والآخر سنة واحدة فقط لا غير، تسعة من أصل عشرة أطفال فقدتهم أمهم دفعة واحدة، الناجي الوحيد من هذه المذبحة كان طفلها آدم الذي يرقد حاليا في العناية المركزة، وحالته مستقرة بعد إجرائه عمليتين جراحيتين عاجلتين،  وشقيقتي تلقت نبأ مقتل أطفالها التسعة وهي تحاول إنقاذ حياة أطفال الناس بمجمع ناصر الطبي، حيث تعمل طبيبة أطفال، ظلت تركض في الشارع باتجاه المنزل كي تتمكن من إلقاء نظرة وداع عليهم، لكننا لم نستطع تمييز الجثث، كلهم أشلاء.. كلهم متفحّمون."[1]

وبعد ثمانية أيام لم يتحمل جسد زوجها الدكتور" حمدي النجار" كمية الشظايا التي أصابته نتيجة الصاروخ الإسرائيلي فالتحق شهيدا بأبنائه التسعة الشهداء، نسأل الله تعالى لهم المغفرة والرحمة، وأن يسكنهم فسيح جناته مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

-     ما هذا الصبر واليقين يا آلاء؟!  قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ *وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 154- 157].

-     ما هذه العظمة والرجولة يا آلاء؟!  قال الله تعالى: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب: 23- 24].

-     إن" آلاء " بهذا الموقف الذي سيبقى خالدا ترويه الأجيال، والكتب، والأسفار، صنعت التاريخ، وعلمتنا:

·     هكذا نصنع التاريخ، وهكذا نحتفي بيوم عاشوراء قلبا وقالبا، مظهرا وجوهرا.

·     هكذا نضحي من أجل الدين، والوطن.

·     الرجولة صفة وليست جنسا، فقد تجد امرأة أفضل من آلاف الذكور.

·     الرجولة أفعال ومواقف، وليست أقوال وكلام.

·     الحياة الدنيا زائلة، والآخرة خير وأبقى.

·     اترك بصمتك في هذه الحياة، لتأخذ منها الأجيال الدروس والعبر.

·     قد تجد فردا يساوي أمة، وقد تجد أمة لا تساوي شيئا.

·     الحرية غالية الثمن.

·     عش لهدف تسعى لتحقيقه، فلا معنى لوجودك إذا كنت بلا هدف، أو رسالة في هذه الحياة.

·     أمتنا أمة الجسد الواحد، والقلب الواحد، والغاية الواحدة.

·     غزة وفلسطين قضيتنا، وهي قضية القضايا.

-     يا "آلاء" بعد هذه الدروس التي تعلمناها منك، والتي تصنع التاريخ وعاشوراء معا، أرى فيك، ودون مبالغة هذا الوسام الذي مدحك به المتنبي:

ولو أن النساء كمن فقدنا... لفضلت النساء على الرجال

فما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال

-     يا "آلاء "أرى من الواجب أن تعم صورتك مشارق هذه الأمة ومغاربها، لأن هذه الأمة فقدت روحها، وذهبت ريحها، فأصبحت تغرد خارج السرب، فلا يخشاها العدو، ولا يهابها حلفاء العدو، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها، فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ، فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ".[2]

-     يا "آلاء "إن أمة بهذا الصورة غير المشرفة - طبعا مع استثناءات تكاد تكون نادرة – لا يمكن لها أبدا أن تحرر وطنا، أو تفك أسيرا، أو تنتصر في فضية من قضاياها المتعددة، وعلى رأسها المسجد الأقصى، وغزة العزة.

-     يا "آلاء "إنه من الواجب على هذه الأمة أن تتحرك، وتتغير وفق سنن كونية تجعلها رائدة وقائدة، تأخذ بيد البشرية إلى بر الأمان، لأن العالم قد خسر كثيرا وكثيرا بسبب انحطاط المسلمين على رأي الندوي رحمة الله تعالى عليه.

-     يا "آلاء "أبشري فمها طال الليل فلا بد من طلوع الفجر، يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى: "حاضر المسلمين يقبض الصدر، وقد يبعث على التشاؤم، ولكنني واثق من أن هذه المحنة ستنجلي كما انجلت محن أخرى في أيام مضت، على أن انجلاء المحن لا يشبه انقشاع السحب، نرقبه ونحن مكتوفو الأيدي، كلا، لا بد من عمل جاد وسعي لاغب، أو كما قلت لا بد أن يعتنق المسلمون الإسلام يقينا وخُلقا ونشاطا وفكرا".[3]

-     يا "آلاء " إن رسالتك واضحة لهذه الأمة، والتي يجب عليها أن تأخذ بالأسباب الحضارية على مستوى جميع الأصعدة من القاعدة إلى القمة، وبالتالي صناعة التاريخ في الحاضر والمستقبل، ولعل من أهم هذه الأسباب:

-     العلم: قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 09]، وعندما نقول العلم فإننا نقصد به جميع التخصصات والمجالات، فكلمة العلم ليست محصورة فقط في العلم الشرعي.

-     السلوك الحضاري: فديننا دين الأخلاق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكْملُ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهُم خلقًا "[4]، والسلوك الحضاري لا يعني فقط حسن التعامل مع الآخرين، بل يعني أيضا كل سلوك إيجابي يصل بالأمة إلى مصاف المجتمعات المتحضرة والمتقدمة مثل العمل المتقن والجاد، الحرص على الوقت وعدم تضييعه، والاستغلال الأمثل لموارد الطبيعة وغيرها حتى لآخر لحظة في هذه الحياة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قامتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكم فسيلةٌ، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتَّى يغرِسَها فليغرِسْها".[5]

-     صناعة الإنسان: فهو أفضل استثمار على الإطلاق، وبه تتحقق الغايات، وتسمو بسببه الأمم والمجتمعات، فالمورد البشري العامل الأساسي في العملية التنموية والحضارية، فهو صاحب المنظومة القيمية، والفكرة الحضارية التي تتجسد على أرض الواقع بطريقة حضارية، قال الله تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي﴾ [طه: 39].

    ولاشك أنها الثلاثية التي تصنع التاريخ، و تعيد لأمتنا مجدها، وهيبتها بين الأمم ، أو بتعبير آخر إنها الثلاثية التي تصنع لنا "آلاء النجار" ومثيلاتها وأمثالها، في كل بيت، وفي كل مدرسة، وفي كل مكان، وبالتالي الوصول إلى مستوى الاحتفاء الحقيقي بيوم عاشوراء، ويحمله من رمزية، ودلالات قاطعة على انتصار الحق على الباطل، وعلى إهلاك الظالمين، وإنجاء المؤمنين، وما ذلك على الله بعزيز، قال الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [ القصص: 5-6].

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.



[1] - للمزيد اقرأ حوار بودكاست يوميات الشرق الأوسط مع سحر النجار.

[2] -  رواه أبو داود برقم 4297.

[3] - محمد الغزالي ، مائة سؤال عن الإسلام، ص : 465.

[4] - رواه الترمذي برقم 1162.

[5] - أخرجه البخاري في الادب المفرد برقم 479.


: الأوسمة


المرفقات

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع