البحث

التفاصيل

الأبعاد الحضارية للهجرة النبوية: (الحلقة الثانية)

الرابط المختصر :

الأبعاد الحضارية للهجرة النبوية:

(الحلقة الثانية)

بقلم: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

الموقف المبدئي والشرعي من الهجرة

فالهجرة ابتداء هي المصطلح الشرعي الذي أسس له النبي صلى الله عليه وسلم بتينك التجربتين -الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة-، بسبب ما تعرض له الصحابة، من ظلم واستبداد واعتداءات من قبل قومهم، الذين ضاقوا بهم وبدعوتهم التي جاءوا بها، وتعني في عرف الفقهاء الانتقال من مناطق الفتنة والابتلاء غير المقدور عليه، بسبب التضييق على النفس والحرية وممارسة العبادة، إلى حيث يجد المؤمن راحته وأمنه، وإلى حيث يأمن المرء على نفسه وحريته وممارسة عبادته لله، من غير تضييق ولا إحراج، حرصا على سلامة النفس والمال والدين، التي عبر عنها الفقهاء أيضا بالانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، على اعتبار أن بلاد الإسلام هي بلاد الأمن والسلام والعافية، وبلاد الكفر هي بلاد الفتنة في النفس والمال والدين...

أما الموقف المبدئي من الهجرة فهي واجب شرعي، متى حضرت دواعيها، حيث لا يجوز للمؤمن الخضوع والخنوع والاستسلام للظلم والاستبداد، بحيث لا يحق للمؤمن أن يتنازل عن حريته التي منحها الله له؛ بل الواجب الدائم والمطرد هو المحافظة على هذه الحرية، ولو بالمقاومة والمواجهة حتى يبقى للحرية معنى فلا يستشري الفساد، ويُغْلب الحق فيخفت ويهان أهله.

وعند العجز عن المقاومة والمواجهة، شرعت الهجرة خوفا على الذات والفكرة التي تحملها هذه الذات، فكانت الهجرة بتجربتيها استجابة لهذا النداء الفطري، خوفا من القضاء على تلك القلة، واندثار فكرتها التي جاءت بها، وموت الفضيلة وانتصار الرذيلة عليها، وما ورد في القرآن في الموضوع، ليس مجرد دعوة للحفاظ على السلامة، وإنما منع المؤمنين من القبول بالاستضعاف، ومن الخضوع للظلمة والطواغيت، وتوعدهم الله إن فعلوا بالعذاب يوم القيامة؛ لأن الحرية التي منحهم إياها لا ينبغي أن تكون ضحية طغيان الطواغيت واستبداد المستبدين (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء 97]؛ لأن الهجرة ليست مجرد تخلص من واقع فيه مظالم، فحسب وإنما هي نوع من الحرص في المحافظة على الحرية، التي لا يمكن أن تنتعش إلا في الأجواء السوية والبيئات الصالحة، وضمان الحق في العدل والتمتع بكل ما يحفظ كرامة الإنسان.

لقد تكلم علماؤنا قديما في حكم الهجرة، فاعتبر بعضهم مشروعيتها منسوخة بقوله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح "‌لا ‌هجرة ‌بعد ‌الفتح، ولكن جِهادٌ ونيّةٌ، وإذا اْستُنْفِرْتُم فاْنِفِرُوا" [أخرجه البخاري وغيره، عن ابن عباس]، فلم تعد الهجرة مشروعة بسبب هذا النهي، ولكن الصحيح فيما يبدو، أن مشروعية الهجرة لا تزال قائمة؛ لأن مبرراتها لا تزال قائمة، سواء بموجب نص الآية، أو بتعليل حديث الهجرة إلى الحبشة، أو بسبب حاجة المؤمنين إلى ذلك إلى أن تقوم الساعة، حيث لا تزال معاناة المسلمين من الاستبداد ومحاربة خصومهم لهم في الكثير من بقاع العالم، مستضعفين مستبد بهم، ولكن هناك محاذير مؤلمة وخطيرة، حيث يوجد الكثير من المؤمنين اليوم ممن هاجروا إلى الغرب فرارا بدينهم وبحرياتهم ومواقفهم المعارضة للنظم الني عارضوها في بلدانهم، ووجدوا الأمان في البلاد التي لجأوا إليها وهي بلاد الغرب غالبا، التي تمثل العدو المباشر للإسلام، ولكنهم اليوم، يخافون على أولادهم وعلى أحفادهم من غلبة الانحراف الديني خاصة؛ بل إن الجيل الثالث من المهاجرين، يكاد يكون غربيا خالصا، فرغم جهود الجاليات الإسلامية في الحفاظ على الشخصية الإسلامية، إلا أن مستوياتهم في المعركة دون مستوى تحدي المنظومة الغربية في جميع جوانبها.

بين الهجرة واللجوء

الهجرة كما مر معنا مصطلح له مدلول شرعي، أما اللجوء فله مدلول آخر مختلف، فيما يعرف باللجوء السياسي والاجتماعي، وهذا ينطبق في جانب منه على هجرة الحبشة، حيث كانت الهجرة قاصرة على البحث عن الأمان من الظلم والاعتداء الذي عانوا منه في مكة...

أما الهجرة إلى المدينة، فليست مجرد لجوء سياسي أو اجتماعي كما هو الحال في تجربة الهجرة إلى الحبشة، لحفظ بعض الحق الذي ضاع للمرء في بلاده وعجز عن تحقيقه، وإنما كانت لتأسيس المجتمع الجديد وميلاد الأمة، بمنظومة جديدة لم يعرفها العالم من قبل، وهي المنظومة الإسلامية بجميع أبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية، لقد كانت تلك الهجرة لتأسيس الأمة، وإنشاء مؤسسات الدولة، وإذا اعتبرنا المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إنشاء للمجتمع بأبعاده الجديدة التي تجاوزت منطق القبيلة الذي عرفه المجتمع العربي قبل البعثة النبوية، وإنشاء الجيش بغزوة بدر الكبرى التي سمى القرآن الكريم يومها "يوم الفرقان" (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنفال 41]؛ بل إن الكثير من النظم العسكرية وما يتعلق بها من أحكام قد تقرر في هذه الغزوة، التي كانت الفيصل بين عهدين عهد ما قبل بدر وما بعدها؛ بل إن الذين شهدوا بدرا قد رقاهم النبي إلى مستوى لم يرق إليه غيرهم...

فإن مجرد الانتقال بالدعوة الإسلامية إلى المدينة بفضل هذه الهجرية، قد نقل الصحابة من مجرد أفراد يُنْسبون إلى قبائلهم، إلى مستوى المؤمنين المتآخين في نظام جديد، كما جاء في آية الأنفال المشار إليها آنفا (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ) [الأنفال 72]... ولذلك كانت آيات الأحكام والمتعلقة بالنظم والتشريعات السياسية والثقافية والاجتماعية، وكذلك أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك في معظمها كانت بعد الهجرة.

أما قبل الهجرة فقد كانت نصوص القرآن وتوجيهات النبي تركز على البناء العقدي التصوري، الذي بنيت عليه تفاصيل الحياة بعد ذلك، في ظل نشأة المجتمع المسلم في المدينة بعد الهجرية.

ولقد انتبه العاملون في حقل الدعوة إلى هذا المعنى الدقيق للهجرة النبوية، فهاجروا إلى بلاد الغرب هروبا من الاستبداد في بلادهم ومن السجن والمطاردات المختلفة والمتنوعة، ولكنهم لم يحتفوا بالحرية والنعيم المقيم فحسب، وإنما شمروا على ساعد الجد واستأنفوا نشاطاتهم بأفضل وأرقى من المواقع التي كانوا يقومون بها في بلادهم.

والذين هاجروا إلى الغرب من المسلمين اليوم وقبل اليوم، هربا من مظالم الاستعمار والأنظمة الفاسدة في العالم الإسلامي، إنما هاجروا إلى الغرب طلبا للعافية وطلبا للعيش الكريم، لا سيما أن الغرب -فرنسا وبريطانيا تحديدا- كان يفرق بين أبناء المستعمرات الذين بقوا في بلادهم وبين الذين انتقلوا إلى لندن وباريس... فالذين بقوا في البلاد كانوا أقل حظ في العدل والتعليم والعيش الكريم والحرية...، ومنهم من هاجر فرارا من استبداد الأنظمة الاستبدادية في بلادهم، طلبا للحرية والعافية، حيث يمكنهم ممارسة حريتهم وفكرهم والجهر بآرائهم ومعتقداتهم بلا خوف ولا طمع.

وهذا الواقع الذي وصفنا، شبيه كثيرا بتجربة الهجرة إلى الحبشة...، فقد هاجر المسلمون إلى الغرب وتحقق لهم الكثير من الفضائل التي سعوا إليها، فالذين هاجروا كلاجئين سياسيين تحقق لهم ما يريدن والذين هاجروا كلاجئين اجتماعيين وجدوا ضالتهم، وكلاهما استفاد من القوانين الدولية التي حفظت للإنسان بعض كرامته.

وقليل منهم كانت هجرته تشبه في تطبيقاتها هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث لم يقفوا عند البحث عن السلامة والحريات الفردية وحسب، وإنما كان لهجراتهم الأثر الكبير في العالم الإسلامي وفي الغرب نفسه. أمثال جمال الدين الأفغاني، شكيب أرسلان، الفضيل الورتلاني، سعيد رمضان "أبو طارق"، مالك بن نبي، عصام العطار ويوسف ندى، وغيرهم كثير من الذين شقوا طريقا جديدا للمسلمين في بلاد الغرب فيما يعرف اليوم بالحركة الإسلامية في الغرب... وهي الجهود التي كانت سببا في شعور الغرب بالغزو الإسلامي فيما ينشرون من تصريحات وتقارير إعلامية وأمنية ودراسات أكاديمية.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
الأمين العام للاتحاد يستقبل الناطق الإعلامي لهيئة علماء اليمن ويبحث مستجدات الأوضاع والتحديات الدعوية والعلمية
السابق
وزير هندي يحرض على ضرب المسلمين في مناطقهم.. وتصاعد خطاب الكراهية يثير قلقًا واسعًا

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع