أسرى التاريخ الأوهام!!
بقلم: التهامي مجوري
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
أسرى جمع
أسير، وهو المتحكم فيه من جهة ما بشعور ومن دون شعور: كأنه عبد مملوك، أو أسير
حرب، أو سجين، ولكن هناك نوع من الأسر غير هذا الذي تظهر فيه هيمنة الغالب على
المغلوب، وهو أسر الفكرة والعادة والتقليد وإلى ما هنالك من المؤثرات النفسية
والعقدية والاجتماعية.
والأسرى
كثر، منهم أسير التاريخ وأسير المعتقد وأسير العادة...، ويمكن جمع هذه النماذج
كلها في بوتقة واحدة هي: أسرى الأوهام، وأسوأ هذا النوع من الأسرى أسرى التاريخ، الذين
توقفوا عند حدث معين من التاريخ تحول مع الأيام إلى معلم رئيسي في حياتهم، بحيث
أصبح هذا الحدث هو المرجع والمصدر لهدايتهم وهداية غيرهم، بل وأصل أصيل في تصوراتهم
للهداية التي يبحثون عنها، وهم ثلاثة أصناف: صنف أسرى لمعتقدات دينية، وأسرى لعادات
وتقاليد اجتماعية وأسرى لوقائع سياسية.
فالأسرى
لمعتقدات دينية، هم الذين يجترون معتقدات دينية تاريخية، ويعتبرونها أصلا في
حياتهم اليومية، ويبنون عليها ما لا نهاية له من الآراء والمواقف، مثل التيار
السلفي ومواقف الشيعة من غيرهم من المسلمين، فينطلقون في بناء تصوراتهم وفهومهم وعلاقاتهم
مع غيرهم من المسلمين من وقائع تاريخية لها حكمها الزمني.
فالتيار
السلفي بنى تصوراته على فهوم معينة لنصوص وعممها على الكليات التصورية للتدين
والسلوك والتعامل مع الناس. فقول الرسول صلى الله عله وسلم: "خير الناس قرني،
ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، هل المراد من هذا
التفضيل وتزكية المنهجية التي تعاملت بها هذه الطبقات الثلاث مع الواقع والوحي، أم
المقصود استنساخ أفعالهم وإعادتها كما هي؟ وهل الاختلاف في النصوص المحتملة تقتضي
الموالاة والبراءة كما هو الأمر مع القضايا الكلية والأصلية؟ وهل يمكن لفرع فقهي
أن يكون حَكَما على الأصول، كما يقول بعضهم الموقف من البدعي أسوأ وأشد من الكافر
الأصلي!! بحيث يمكن أن نتعامل مع الكافر اما البدعي
فلا بد من مقاطعته!!
أما
الشيعة فجميع تصرفاتهم وتعاملهم اليوم مع غيرهم من المسلمين ينطلق من موقف سياسي من
الانقلاب على الخلافة الإسلامية من قبل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، التي
كانت سببا في منع الإمام علي رضي الله عنه من حقه في قيادة الأمة.
وهذه
الحادثة مهما قلنا فيها من انحراف المنهج السياسي وما فيها من أخطاء أو حتى جرائم!! على مذهب إخواننا
الشيعة، فهي تاريخ وغير قالب للتصحيح، قد ذهب بخيره وغيره، ولا حيلة لنا في
التعامل معه إلا النظر فيه واستنطاقه والاستفادة منه في مسيرتنا الحياتية حاضرا
ومستقبلا، وسواء كانت الخلافة لعلي او لمعاوية، او كانت حقا، أو باطلا، او اجتهادا،
أو جريمة، فهي تاريخ لا علاقة له بواقعنا... ولكن الشيعة انطلقوا من هذا الخطأ
السياسي وجعلوا منه موقفا رئيسيا في تصنيف الناس وتسجيل الموقف منهم، ابتداء من
تصنيف الصحابة للتفريق بينهم من كان مع علي ومن كان معارضا له؟ رضي الله عنهم
جميعا، وشق طريق جسد الأمة، لتتميز شيعة علي عن غيرهم من الناس، وبنوا مذهبا
بسلسلة من الأئمة لهم مواصفات معينة، وبقي الشيعة برمتهم أسرى لهذا الخط إلى اليوم،
وقد أثر ذلك على طريقتهم في التعامل مع الوحي والإسلام عموما، فعلماؤهم غير علماء
غيرهم، وكتبهم في الحديث غير كتب غيرهم وكتبهم في الفقه وعلم الكلام غير كتب غيرهم؛
بل يوجد لبعض المغالين منهم قرآنا غير قرآن غيرهم... وهذا في الحقيقة كله لا قيمة
له، إذا جردناه من الخلفية التاريخية التي هي تاريخ، لا أكثر ولا أقل، فانحراف
السلطة السياسية على عهم بني أمية تاريخ، وخروج الخوارج تاريخ، ونشأة الشيعة
وخياراتهم السياسية والثقافية تاريخ، ومقاومة الإمام علي لخصومه تاريخ، ومقاومة
الحسين حتى الاستشهاد تاريخ... واختلاف الحسن عن الحسين رضي الله عنهما تاريخ،
فلماذا يبقى الناس أسرى لهذا التاريخ الذي ولد فينا أوهاما لا علاقة لها بالنهضة
والإصلاح ومقاومة الاستكبار الغربي.
هل من
المعقول أن تبقى الأمة حبيسة موقف سياسي في التاريخ وتجمد كل ما يتعلق بالواقع
والمستقبل؟ وهل من المعقول أن يستحضر عمل الحسين ووالده الإمام علي رضي الله
عنهما، وتستبعد بطولات آخرين في التاريخ الإسلام يعدون بالملايين؟
إن من
آثار هذا الأسر بقاء الحزن مخيما على المجتمع الشيعي إلى اليوم، بلطم الخدود ويجلد
الأجسام ويسيل الدماء في عاشوراء وغير عاشوراء...حزنا على الحسين وأتباعه، ناسين أو
متناسين بطولات وشهداء بالملايين تضاهي ما قام به الحسين ووالده رضي الله عنها في العالم
الإسلامي.
ويوجد
هذا "الأسر" أيضا في بعض الطرق الصوفية المنغلقة على نفسها وبعض
الجماعات المتطرفة التي اتخذت من المسائل الفقهية الخلافية قواعد لها في بناء
المواقف والآراء من غيرهم المخالفين لهم، ونسي الجميع أن من انطلق من قضية جزئية
وجعلها حَكَمًا على من يخالفهم ويخالفونه، مصيره التطرف والطائفية؛ لأنه يعتقد في
نهاية المطاف أن كل من لم يكن على رأيه ومذهبه فهو خارج عن الصواب ومصيره الخراب.
أما
الأسر لعادات وتقاليد اجتماعية، فهم أيضا أسرى لأوهام؛ لأن العادات والتقاليد،
ليست دائما تستحق البقاء، بوصفها قيمة زمنية اقتضتها مرحلة زمنية معينة، ثم فقدت
مبررات بقائها، ومن ثم فهي ليست جديرة بالبقاء والتعلق بها.
فكل من
يتعامل مع العادات والتقاليد بمعزل عن قوانين النفس والاجتماع الإنساني، والاقتصاد
والسياسة، ومقتضيات الوحي ومقررات المصالح والمفاسد، مصيره الانغلاق على النفس
والوقوع في مخاطر تعميق التخلف والتطرف والانحراف.
وأخيرا أسرى
الوقائع السياسية، الذين ربطوا أنفسهم بوقائع ومواقف وأراء سياسية معينة، وساروا
عليها في جميع مراحل حياتهم، فلم يلمحوا فضيلة في خصومهم السياسيين، كما يرون في
أنفسهم من فضائل الكلام وإدراك الحقائق.
ويحضرني
هنا مثال لمحمد بوضياف رحمه الله عندما جلبوه لسد فراغ دستوري في انقلاب سنة 1992،
لينصب رئيسا للمجلس الأعلى للدولة، وهو واحد من مفجري الثورة كما هو معلوم، وكان
من بقايا خصومه السياسيين التاريخيين الأستاذ عبد الحميد مهري رحمه الله، الذي كان
معارضا للسلطة في انقلابها، وقد كان في الحركة الوطنية التاريخية، من المركزيين
عند اندلاع الثورة ولم يكن له علاقة بها يومها... فلم يجد محمد بوضياف رئيس المجلس
الأعلى للدولة، ما يعيّر به مهري المعارض للسلطة إلا هذه الواقعة التاريخية، وهي
عندما اندلعت الثورة لم يكن من بين مفجريها، كما لم يجد في الجبهة الإسلامية
للإنقاذ المحظورة إلا انتسابها لجمعية العلماء التي لها قصصها الخلافية مع الجناح
الثوري للحركة الوطنية، وأكثر من ذلك لم تكن من مفجري الثورة!!.
وأخطر ما
في هذه الفئات من "أسرى الأوهام"، هم أسرى المعتقدات الدينية التاريخية
والمواقف والآراء السياسية، لتأثيرهم المباشر على الصور الذهنية للناس ببناء آراء
ومواقف على أوهام لا سند علمي لها... فعندما تحُدِّث شيعي في واقع العلاقات بين
إيران وجيرانها مثلا، أو سني في موقفه من الشيعة، ينتقلان بك رأسا إلى الأصول
التاريخية لهذا الخلاف، رغم أن التاريخ تاريخ لم يمكن إعادته كما كان كما أشرنا، والحقيقة
الماثلة بيننا هي أن الشيعة وخصومهم الذين نرى ونشاهد اليوم لا علاقة لهم بما مضى
من التاريخ وحقائقه، فلا شيعة اليوم هم أنصار علي، ولا غيرهم يمثلون بني أمية.
وكذلك في
الجانب السياسي فلا تزال الأمة أسيرة الجماعات والتنظيمات السياسية، من إسلاميين
ويساريين وليبراليين وقوميين، رغم أن الواقع غير الواقع والزمن غير الزمن، ومن
ارتضى لنفسه أن يبقى رهينة للوقائع والأحداث التاريخية دينية كانت أو سياسية أو
اجتماعية، لا حظ له في البقاء والاستمرار في العيش؛ لأنه ربط نفسه بمراحل تاريخية
وتحجج ببعضها أو حاول استنساخها والاهتداء بهديها، وطريقه لمزبلة التاريخ في
تقديري أقرب إليه من مرضاة الله يوم القيامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة
تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.