البحث

التفاصيل

الغزو الثقافي.. قوةٌ ناعمة

الرابط المختصر :

الغزو الثقافي.. قوةٌ ناعمة

بقلم: د. سعد الحلبوسي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

في عصرنا الحالي تشتد التحديات الأخلاقية بفعل تسارع التطور التكنولوجي وتزايد التداخل الثقافي، ما يجعل قضية الأخلاق ضرورة ملحّة في بناء مجتمعات صحية وقادرة على مواجهة هذه التغيرات.

ولقد أصبحت القوى الناعمة، ومن بينها الغزو الثقافي، أحد أبرز وسائل التأثير في عقول الشباب وأفكارهم، مما يؤدي إلى تسلل قيم ومعايير بعيدة عن أصالة مجتمعنا العربي والإسلامي، ويهدد هوية الأجيال الصاعدة، فيؤدي هذا الغزو إلى تشكيل منظومة القيم لديهم، ثم يحاول زعزعة القيم الأسرية وإضعاف الروابط المجتمعية، وهو ما يتطلب منا توجيه الأجيال الشابة نحو استيعاب مخاطر هذا التأثير والحفاظ على هويتهم الأصيلة.

إن المراهقين هم الأكثر عرضة لهذه المؤثرات الخارجية؛ إذ إنهم في مرحلة عمرية حساسة يكون فيها بناء الهوية الذاتية واكتشاف الذات أحد أبرز أولوياتهم، ولهذا فإن إهمال الأبناء في هذه المرحلة العمرية قد يكون له آثار وخيمة، فيمكن أن يتأثروا بعوالم افتراضية قد تُغرِّبهم عن واقعهم الثقافي والديني، ولذا ينبغي على الآباء والمعلمين أن يعملوا على تقديم الدعم والمشورة، وأن يكونوا حاضرين في حياة أبنائهم كمرشدين وموجهين، بحيث لا ينغمس هؤلاء المراهقين في تيارات تغذي فيهم التبعية للثقافات الدخيلة دون إدراك حقيقي لآثارها.

وإذا انتقلنا إلى العلاقات الزوجية، نجد أن خصوصية الحياة الزوجية أصبحت بدورها تتعرض للضغوط بفعل الانفتاح التكنولوجي وتبادل المعلومات الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي قد يؤدي إلى تدخلات غير مرغوبة في الحياة الزوجية، ويؤثر سلباً على الثقة بين الزوجين، وأصبح من الشائع أن تتأثر العلاقة الزوجية بسبب ما يُعرَض ويُروَّج له عبر هذه المنصات، مما يزيد من الضغوط على الأسر، فالحفاظ على الخصوصية في العلاقات الزوجية واحترامها يظل عنصراً أساسياً لضمان استقرار الأسرة، بما يشمل الحفاظ على روابط الثقة المتبادلة وتوفير بيئة آمنة ومستقرة للأطفال، حيث إن استقرار الحياة الزوجية هو الأساس لتنشئة جيل جديد سليم نفسيًا وأخلاقيًا.

ولا يمكن أن نتجاهل هنا خطورة التكنولوجيا وتأثيرها الكبير على الأطفال، الذين يُعدون الأكثر تأثراً بها في هذا العصر الرقمي، فأصبح الأطفال اليوم محاطين بشاشات الأجهزة الذكية منذ سن مبكرة، ما يعرضهم لمحتويات لا تليق بمرحلتهم العمرية، وقد تؤدي إلى اختلالات في سلوكياتهم وقيمهم، إن لم تتم مراقبة استخدامهم وتوجيههم بشكل صحيح، فالعالم الافتراضي مليء بالمحتويات الضارة التي تزعزع براءة الأطفال وتجعلهم يعيشون في عالم بعيد عن الواقع، وهذا يتطلب من الأسر والمجتمع والمؤسسات التعليمية العمل معاً لحماية الأطفال وتوجيههم نحو استخدام التكنولوجيا بشكل واعٍ ومسؤول، بحيث تُسهم في تنمية قدراتهم الإبداعية والفكرية بدلاً من تقييدها أو تشويهها.

ومن جهة أخرى فإنّ الشباب من أكثر الفئات تأثراً بوسائل التواصل الاجتماعي، حيث تساهم الصور النمطية المنتشرة في تعزيز ضغوط نفسية لديهم، وتوليد شعور بالنقص وعدم الرضا عن واقعهم، ولذا يعاني العديد من الشباب من تأثير هذه الوسائل، لا سيما عندما يقارنون أنفسهم مع شخصيات تظهر حياة مثالية عبر منصات التواصل الاجتماعي، ما يؤثر سلباً على تقديرهم لذاتهم، ويضعهم تحت ضغط دائم لتحقيق معايير غير واقعية، ولهذا نجد أن للأسرة دوراً أساسياً في بناء وعي الشباب وتنمية ثقتهم بأنفسهم، وتوجيههم نحو تحقيق طموحاتهم بما يتماشى مع واقعهم وقدراتهم الشخصية.

ويُعدُّ استقرار الأسرة ضرورةً قصوى للحفاظ على تماسك المجتمع، حيث أصبحت ظاهرة الطلاق إحدى المشكلات الاجتماعية الكبرى التي تُؤثر في كافة أفراد الأسرة، وتزيد من معاناة الأطفال والشباب على حد سواء، لأنّ انتشار الطلاق له آثار اجتماعية ونفسية واقتصادية تستدعي اهتماماً بالغاً من المجتمع، فيجب أن تكون هناك جهود جماعية لحماية الأسرة ودعم الأزواج في معالجة مشكلاتهم بطرق صحية، تعزز من فهمهم لأهمية الشراكة الأسرية.

ومن الحلول المقترحة لمواجهة التحديات الأسرية المعاصرة، تأتي فكرة تأسيس مراكز للاستشارات الأسرية التي توفر الدعم والنصح للأسر، وتساعدهم على تجاوز الصعوبات والعقبات التي قد تواجههم في الحياة اليومية، فتستطيع هذه المراكز أن تقدم نصائح مستندة إلى خبرات متنوعة حول كيفية التعامل مع التحديات الأسرية المختلفة، وتوفير برامج إرشادية تعزز من مفهوم الحوار والتواصل داخل الأسرة، وتحفظ تماسكها، وإن وجود هذه المراكز سيسهم في تعزيز التفاهم الأسري وتقديم الدعم للأفراد، مما يخلق مجتمعاً متماسكاً ومتناغماً يلتزم بقيمه وهويته في ظل التحديات المعاصرة.

بالتالي فإن الحفاظ على الأخلاق وتكريس القيم الأصيلة ضرورة حتمية لمواجهة تحديات العصر، ويجب على كل فرد من الأسرة إلى المؤسسات المجتمعية، أن يلعب دوره في تكوين مجتمع قوي أخلاقياً، يمتلك حصانة ثقافية ويعزز من استقراره الاجتماعي.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
تفكيك منظومات الاستبداد (٥٥): صلاحيات الحكام في المال العام في الإسلام
السابق
الشيخ عصام البشير يبارك رفع العقوبات عن سوريا ويدعو لدعم الإعمار وصناعة المستقبل

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع