تفكيك منظومات الاستبداد
(٥٥): صلاحيات الحكام في المال العام في الإسلام
بقلم: د. جاسر
عودة
عضو الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين
سؤال بمناسبة ما نراه بأم
أعيننا في هذه الأيام النحسات، من كميات هائلة من الأموال العامة في بلاد المسلمين
التي ينفقها حكام المسلمين، لا على بذخ وترف وسفه القصور والحاشية والمركبات
والطائرات والموائد فحسب، بل أصبحوا يدفعون من أموال المسلمين العامة في يوم واحد
ما يوازي موازنات دول كاملة في سنوات، لخطب ود الأباطرة المعاصرين، هؤلاء الأباطرة
أنفسهم الذين يغزون أرض الإسلام ويقتلون -في نفس اليوم واللحظة- أشرف من في أمة
محمد ﷺ حرقًا وهدمًا وتجويعًا وتعذيبًا، ينفق حكام المسلمين هذه الأموال الطائلة
تحت حجج واهية من ”التنمية“ و"الاستثمار“، في وقت لا يجد فيه أشرف من في هذه
الأمة كسرة خبز، فضلًا عن تضييعهم ”التنمية“ و"الاستثمار“ في الشعوب
الإسلامية التي أصبحت يغلب عليها الفقر والفاقة، إلا الطغاة وأملائهم، والمحتكرين
وخدّامهم. والسؤال هو: هل تجوز هذه التصرفات؟ أو بتعبير آخر: هل يحق للحاكم في
شريعة الإسلام أن يتصرف في المال العام دون قيد أو شرط؟ وخلاصة الإجابة: اللهم لا.
وهاك بعض التفصيل:
قال تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ
وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ
بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - البقرة ١٨٨). و(أموالكم) أي مال
الأمة، و(أموال الناس) أي المال العام بالتعبير المعاصر، و(أكله بالباطل) يعني أخذ
الحكام للمال العام بغير حق شرعي أو إنفاقه في غير وجه شرعي. وهذه الآية تمثل
أصلًا لفقه تعامل” الحكام“ -أي أصحاب السلطة بكل أشكالها في الحكومات بكل أشكالها
الجمهورية والملكية والفيدرالية وغيرها، في تعاملهم مع المال العام بكل أشكاله.
وقد بيّن النبي ﷺ في سنّته
تطبيق هذا الأصل في عصر الرسالة، فحرم تحريمًا صريحًا لا لبس فيه أن ينتفع صاحب
السلطة من منصبه نفعًا خاصًا خارج ما خُصص له من راتب أو نفقة بالمعروف، كالذي
رواه أبو حميد الساعدي الأنصاري رضي الله عنه: اسْتَعْمَلَ النبيُّ ﷺ رَجُلًا مِنَ
الأزْدِ، يُقالُ له ابنُ الأُتْبِيَّةِ على الصَّدَقَةِ، فَلَمّا قَدِمَ قالَ: هذا
لَكُمْ وهذا أُهْدِيَ لِي، فقال ﷺ: (فَهَلّا جَلَسَ في بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ
أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ يُهْدى له أَمْ لا؟ والذي نَفْسِي بيَدِهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ
منه شيئًا إلّا جاءَ به يَومَ القِيامَةِ يَحْمِلُهُ على رَقَبَتِهِ، إنْ كانَ
بَعِيرًا له رُغاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَها خُوارٌ، أَوْ شاةً تَيْعَرُ)، ثُمَّ
رَفَعَ بيَدِهِ حتّى رَأَيْنا عُفْرَةَ إبْطَيْهِ وقال: (اللَّهُمَّ هلْ
بَلَّغْتُ)، ثَلاثًا (البخاري ٢٥٩٧). وفي رواية ابن خزيمة (٤/١٢٨) قال: (فإن
سُئِلَ من أينَ لَكَ هذا؟ قالَ أُهْديَ لي).
ويمكن أن نلخص معايير
(الحق) في مقابل (الباطل) في ما يتصرف فيه الحكام من مال الله -أو مال الأمة أو
المال العام- من مجموع الأدلة في هذه المبادئ السبعة:
(١) مبدأ
الحصول على راتب ونفقات جارية تكفي حاجات الحكام بما يقتضيه المقام والظرف: وحتى لو تغير
الزمان والواقع واحتاج الحكام في مناصبهم المختلفة لمخصصات ورواتب ومباني ووسائل
أعلى من المستوى الذي حصل عليه الخلفاء الصالحون في تاريخنا، قاصدين بذلك عونهم
على أداء مهامهم، فلهم ذلك ولكن بالقسط وفي المعدل الأعلى مما يكتسب موظفو
حكوماتهم، وليس في معدل أعلى مما يكسبه أغنى التجار كما نرى في واقعنا حيث أصبح
الحكام -خاصة من المسلمين- لا تُقارن ثرواتهم أصلًا بثروات أغنى التجار في العالم
في إحصاءات الثروات.
(٢) مبدأ
عدم الإسراف في ما يبني أو يشتري الحكام من مرافق من المال العام لأغراض الحكم: الحق أنه قد
حدث انحراف في هذا الشرط منذ القرن الأول الهجري ببناء القصور الفخمة واتخاذ
الحاشية، وكان التبرير منذ ذلك الوقت أن هذه من دواعي الولاية حتى يحترمها الناس
ولا تقوم الفتن، إلى آخره، إلا أن الإسراف -رغم الإقرار بنسبيته في الزمان والمكان
والظرف- له حدود يعرفها العقلاء في كل زمن، فإذا وصلنا إلى تشييد وتزيين القصور
والمركبات والسفن والطائرات بالجواهر والذهب والأحجار الكريمة والأثاث والزخارف
واللوحات بما يقدر بمئات الملايين، فضلًا عن شراء الجواري والشعراء والندماء -في
صورهم المعاصرة- بالأثمان الباهظة، وطعام وشراب مترف يُشحن من بلاد بعيدة، ونفقات
باهظة للتشريفات والخدم والحراسة، بحيث يبتلع كل هذا ما يزيد عن المخصص من المال
العام لموازنة الدولة نفسها، كما نرى في دول إسلامية عديدة في واقعنا، فقد أُكل
مال الله بالباطل. هذا فضلًا -وبداهة- عن أن يكون هذا الإسراف في إنفاق المال على
أعداء الأمة قاتلي مجاهديها ومستبيحي أراضيها وهاتكي أعراض أهلها، فهذا الإسراف
على أعداء الأمة إثم على إثم.
(٣) مبدأ أن
لا يمتلك الحكام المرافق العامة التي تشيّد من مال الله ولا يورثوها لأبنائهم: وهو أحد
المعايير الأصيلة لتقييم سيرة الحاكم أو المسؤول، ورحم الله أبا بكر رضي الله عنه
الذي أوصى عند وفاته أن تُضم أرض له إلى بيت المال تعويضًا عن ستة آلاف درهم
فرضوها له من بيت المال، ورحم الله عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كانت
تركته ثمانمائة درهم، ورحم الله عمر بن عبد العزيز الذي كانت تركته ثمانية عشر
دينارًا، إلى آخر الأمثلة، في مقابل كثير من الحكام منذ ذلك الزمان إلى عصرنا
الذين ملكوا ثم ورَّثوا ما قيمته ذهبًا مما يعد بالأطنان، دون وجه حق إلا أنهم
حكام أكلوا مال الأمة بالباطل.
(٤) مبدأ
عدم تعدى الراتب إلى مخصصات للأقرباء لمجرد قرابتهم من الحكام دون عمل يعملونه في
الدولة:
فالمشروع في الإسلام أن يأخذ الحاكم ما يكفيه ويعطي منه من يعول فحسب. أما أن تحصل
عائلة أو قبيلة كاملة على مخصصات هائلة لمجرد قرابتها من حاكم أو مسؤول دون عمل في
الدولة فهو أكل لأموال الناس بالباطل يدخل تحت النهي وينطبق عليه قول النبي ﷺ
المذكور آنفًا: (هلّا جلس في بيت أبيه وأمّه فيُهدى له؟)، وقوله: (من أين لك
هذا؟).
(٥) مبدأ
عدم استغلال النفوذ أو السلطة فيما يمارس الحكام من تجارة: قد يقول قائل
إن الذين يجمعون الثروات من التجارة من الحكام يجمعونها بجهدهم في أعمال أخرى غير
الحكم، وهذه شبهة قديمة جديدة، تصرّف معها الخلفاء الراشدون إما بمنع الحكام في
الدرجات العليا من سلم الحكم من التجارة أصلًا، كما فعل عمر بن عبد العزيز مثلًا،
وتفعله دول نزيهة معاصرة بحكم القانون، أو بمقاسمة المال معهم بعد التأكد من جمعه
من حلال كما فعل عمر الأول رضي الله عنه، فيعود نصف ما يحقق المسؤول من ثروة من
التجارة إلى ”مال الأمة“ أو المال العام. وقضية استغلال النفوذ دقيقة ومركبة،
وتحتاج في عصرنا إلى سياسات مناسبة في الفقه الإسلامي من أجل التعامل معها، نظرًا
لأن استغلال النفوذ لا مفر من وقوعه خاصة إذا كان الحاكم يتاجر وهو في منصب حساس
في الدولة.
(٦) مبدأ أن
تكون جباية المال من الرعايا وحتى من الأعداء حسب الشرع: والحق أن هذا
الشرط قد حدثت فيه أيضًا تجاوزات تاريخية ومعاصرة كبيرة، فيروي التاريخ في حقب
مختلفة كيف أثقلت النظم المستبدة على الرعية بالضرائب التي ما أنزل الله بها من
سلطان، والتي صرفوها ليس في الصالح العام بل في أملاكهم الخاصة ثم إخماد الفتن
والثورات الداخلية التي كان سببها الأول بغيهم وظلمهم للناس. وليس هناك شرعية لجمع
الدولة للمال من الناس في الإسلام إلا الزكاة والجزية والغنيمة والفيء والإقطاع،
وذلك في حدود شروط وضوابط واضحة مفصلة في النصوص الشرعية، ولمصلحة الدولة لا
لمصلحة الحكام وأهوائهم.
وأما ما وراء ذلك من ضرائب
فلا تباح إلا للضرورات، وبعد أن يعيد الحكام ما أخذوه بالباطل من أموال الناس أي
أموال الأمة، ورحم الله سلطان العلماء الإمام العز بن عبد السلام، الذي رفض أن
تُفرض ضرائب على الناس في عهد مماليك مصر رغم ظرف الحرب مع التتار وقتها، قبل أن
يتوبوا من أكل أموال الأمة بالباطل ويردوها، فكانت فتواه المشهورة للمماليك حكام
ذلك الزمن، والذين كانوا غارقين في الترف من مال الأمة -وما أشبه الليلة
بالبارحة-، فقال لهم العز: ”إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالَم قتالُهم،
وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط أن لا يبقى في بيت
المال شيء من السلاح والسروج الذهبية والفضية والكبابيس المزركشة وأسْقاط السيوف
والفضة وغير ذلك، وأن تبيعوا مالكم من الحوائص الذهبية [أي التي مع جواريهم]
والآلات النفيسة [أي التي في بيوتهم]، ويقتصر كل الجند على سلاحه ومركوبه،
ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في أيدي الجند من
الأموال والآلات الفاخرة فلا“ (السيوطي في تاريخ الخلفاء، ١/٤٣، ابن كثير في
البداية والنهاية، ١٣/٢١٥).
(٧) مبدأ أن
يكون التصرف في المال العام بقصد المصلحة العامة للأمة لا المصلحة الخاصة للحاكم: وهذا بدوره
شرط دقيق يقتضي التجرد للحق، ويبيح التصرف في المال العام للحفاظ على هيبة الدولة،
مراعاةً لمصلحة الناس لا لمجرد أن يبقى الحاكم على كرسيه وهو لا يقوم بواجبات
الحكم ولا يدافع عن مقدسات الأمة ولا نفوس ذراريها وضعفائها كما نشهد اليوم، ولابد
أن تكون الدولة -بداهة- دولة شرعية من أصلها، ويغلب عليها الحكم بالعدل وقصد
الإصلاح في عموم تصرفات حكامها، وإلا فليس هناك شرعية لاستخدام مال الأمة العام
لتثبيت دعائم حكم فاسد، فضلًا عن تثبيت دعائم حكم أعداء الدين ومستبيحي حرمات
الأمة ومقدساتها!
اللهم فاشهد، ولا حول ولا
قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين.