البحث

التفاصيل

إجابات عن تساؤل بريء؟! 2/2

الرابط المختصر :

إجابات عن تساؤل بريء؟! 2/2

كتبه: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


تناولنا في الحلقة الأولى من هذه الإجابات عن المداخل المعرفية، التي تكون سببا في انقلاب المرء من حال إلى حال أسوأ، وقدمنا للمداخل النفسية بمقدمة موجزة، ولإتمام الموضوع، نواصل في هذه الحلقة، الكلام عن المداخل النفسية وما يليها من مداخل وذلك في عرض الحالات التي نرى من الضروري التنبيه إليها وهي:

الحالة الأولى: هي الحالة التي يخيل للمرء فيها أنه يفعل شيئا أفضل معتبرا الكثرة هي المعيار فيما يفعل ويقول... ومثال ذلك ما وقع للذين سألوا عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما أخبروا كأنهم تقالوها و"قالوا: فأينَ نَحنُ مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؟ قال أحدُهم: أمَّا أنا فأصَلِّي اللَّيلَ أبدًا، وقال الآخرُ: وأنا أصُومُ الدَّهرَ ولا أفُطِرُ، وقالَ الآخرُ: وأنا أعْتَزِلُ النِّساءَ ولا أتَزَوَّجُ أبدًا، فجاءَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: «أنتم الذين قُلتم كذا وكذا؟ أمَا والله، إنِّي لأخْشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصُومُ وأفْطِرُ، وأصَلِّي وأرْقُدُ، وأتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَن رغِبَ عَنْ سُنَّتِي فليس منِّي".

ورغم أن ما أراد فعله هؤلاء، كان يمارسه غيرهم من الصحابة مثل أبي الدرداء وأبي هريرة وأبي ذر، فقد عرف عنهم كلهم الزهد، ولكنهم كانوا يمارسون ذلك كقناعات فردية لم يعلنوا عنها كخيارات يرغِّبون غيرهم فيها، أو يدعون أن ما يفعلونه هو الأفضل، ودون مفاضلة بين ما يفعلون وبين ما فعل النبي. ورغم أن ذلك ليس هو الخيار الأسلم، ولكنهم يُعْذرون في خياراتهم مراعاة لخصوصياتهم الفردية، أما ما قام به النفر فهو معرض للتعميم وخطره سيكون أعم بسبب تبنيهم تلك المنهجية المجانبة للوسطية المطلوبة، ولذلك تبرأ منهم النبي صلى الله عليه وسلم... لاحتمال انتشار الموقف، وتطويقه حتى لا يتحول إلى منهج ضرار لمنهج النبي الوسط، يرغب فيه الناس طمعا في فعل الأولى.

والسر في انحراف هؤلاء عن الجادة رغم أنهم أرادوا خيرا، يكمن في أنهم نظروا إلى الأمر من عبادة النبي إلى كثرة الإفعال، فاعتبروا أن ما يقوم به النبي قليل، حيث لم ينتبهوا إلى التوازن، فتقالوا العبادة تشوفا للكثرة، ولكنهم في التطبيق انحرفوا إلى اختيار النوع فقللوا منه، حيث ركو كل واحد منهم على جانب واحد من العبادات وأراد الإكثار منه، فوقع الاختلال بين الكم والنوع فيما اختاروا من العبادة وكيفية تحسيدها.

الحالة الثانية: فكرة العجب، والإعتداد بالنفس والفعل والمكانة، وذلك عندما يشعر الإنسان بأنه ارتقى بمكانته وفعله وقوله فبلغ مستوى لا يرقى إليه غيره، فيحس بأنه أفضل من الناس وأنه في مكانة ليست لغيره، وهو مقبول عند الله أو أنه بلغ المستوى الذي لا يخذل فيه كما وقع للمسلمين في يوم حنين حيث قال بعض الصحابة "لا غالب لنا اليوم" بفضل الكثرة التي كانوا عليها فأجابهم الله بقوله (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) [التوبة 25].

وهذا كثير في حياة النخب في عالمنا الإسلامي، غرورا واعتدادا بالنفس، وتكبرا على خلق الله ممن هم دونهم في العلم والمكانة الاجتماعية...؛ بل إن البعض يفعل ذلك حرصا على ما يقوم به من أنشطة عامة، ويحسب أنته يحسن صنعا.

إن العجب من المداخل النفسية الخطيرة التي قد تنحرف بالإنسان إلى مهاوي لا قاع لها، بسبب ما أصيب به من منطق الاستعلاء والتكبر والانعزال والنأي بالنفس عن مخالطة الناس والانفصال عن الجماهير العريضة...، لا سيما عندما يشعر المرء برفعة ما تفضل الله به عليه، فتعترضه آفة العجب بالنفس، بفضل ما يشعر به من نعم تفضل الله بها عليه، وما أجرى الله على يديه من فضائل تجاه الغير...، وكأنه هو من تفضل بها على نفسه!!

الحالة الثالثة: التقليد وهو آفة ليست أقل خطر من سابقاتها، وهي عندما ينخدع المرء بحالات من النجاح يلمسها في غيره من الناشطين، فينساق إلى تقليدها ومحاكاتها بلا معرفة ولا علم بها، فيتوهمها نجاحات وفضائل، وهي ليست كذلك وإنما توهمها وتعلق بها... والأمور التي تبدأ بالوهم فإنها لا تخرج عنه، وخاصة فيما يتعلق بالبدع الملصقة بالعبادات، التي يشتهي الناس فعلها من غير علم ولا تمحيص، وإنما بمجرد الذوق، مثل المعاصي المتعلقة باللذة، فإنها شهوة عابرة، ولكن فعلها في النفس يبقى... ومن هنا تكون مداخل للشيطان... وفي هذا الجانب وقع الكثير ممن انتسبوا إلى الطرق الصوفية المنحرفة وأدعياء النبوة والولاية، من الذين عاشوا فراغا روحيا كبيرا وعندما وقعوا في مثل هذه الساحات، تذوقوا الأنشطة المغلفة بنصوص الوحي مثل مبالغات القوم في الانشغال بالعلم اللدني وبعض الفهوم الجزئية الخارجة عن الموضوع.

الحالة الرابعة: اليأس وهو أخ الكفر، وهو من الأمور التي يحُذَّر منها لأنها مدخل من مداخل الاختلال العقدي... ولكن ما يصيب الإنسان من اهتزازات نفسية بسبب الضغوط وشدة الصراعات بين القوى المتصارعة، وحالات الاستضعاف التي يعاني منها المسلمون اليوم، كلها تساعد على الانحراف، إذا لم يكن المرء محصنا بوسائل المقاومة النفسية الكافية... لا سيما عندما تفتح أبواب الإغراءات على مصراعيها، فيلتبس على المرء الأمر، وينساق وراء شهوة الراحة والدعة والسلامة وربما نيل المكاسب المفترضة.   

المداخل السياسية والاجتماعية: حيث أن المجتمعات بنظمها الاجتماعية والسياسية هي التي لها القدرة على توجيه أفرادها والتأثير على خياراتهم ابتداء وليس العكس، بسبب ما للواقع الاجتماعي من إكراهات على أفراده  وجماعاتهم ، فكم من إنسان كان في مكان نشطا متفاعلا مع الواقع بإيجابية  منقطعة النظير، شعلة متقدة  تُرى ثمارها في الواقع، ولكنه بمجرد أن يغير المكان فينتقل إلى مكان آخر ينقلب رأسا على عقب، وذلك بسبب الواقع الذي انتقل إليه، المختلف عن الواقع الذي كان فيه نشطا، سواء بفعل العرف العام الراكد هنا ومتحرك هناك، أو بسبب التأثر بواقع مختلف عن الواقع الذي كان فيه فيتحول طبعه خضوعا للواقع الجديد...، فيخسر الإنسان الخير بسبب ذلك. قد تكون هناك أسباب أخرى، ولكن الظاهر فيها هو تغير الواقع الاجتماعي... أما الجانب السياسي قد يتسبب في تغير الإنسان تغيرا كبيرا فيرتفع إلى مستوى الانحراف الأخلاقي والتراجع النفسي والاجتماعي، خوفا أو طمعا، باعتبار أن الرقعة السياسية تمثل القوة والنفوذ والتأثير، فتُستدرج النفوس الضعيف إلى هذا الواقع المغري المخيف... إلى الطمع بحثا عن موقع ومكانة في الرقعة الإدارية التنفيذية الجديدة...، وربما صمد البعض لفترة ولكن القوى النافذة لا تصبر على منافسيها والقوى المؤثرة في الواقع فتستبعد الأقوياء وتحيدهم، وبطول الأمد ينحرف العنصر الفاعل عن الجادة، تحت ضغط القوى التنفيذية المؤثرة، فيبتعد المرء شيئا فشيئا، ثم يتحول هذا الابتعاد إلىخوف ملازمن ليتم بعد ذلك التخلي النهائي على ما يجب القيام به... وربما تغير المرء كليا على مر الأيام.

في إحدى جلساتي في مطلع الثمانينيات مع الشيخ أحمد سجنون عميد الدعوة الإسلامية في الجزائر، ببيته في الجزائر العاصمة، سألني عن أحد أقرانه من الدعاة المجاهدين وهو الشيخ "الهاشمي بن حميدة" رحمه الله وهو من أهل وادي سوف بالجنوب الجزائري، وقد عاد إلى المنطقة بعد الاستقلال... فأخبرته بأنه عاد إلى "البلد" وامتهن التعليم في الطور الاعدادي...، فقال لي أليس له نشاط آخر؟ قلت له لا ليس له نشاط آخر... فقال لي سبحان الله... هذا الرجل كان شعلة من الحركة والنشاط الدعوي والإصلاحي والجهادي قبل الاستقلال وأثناء الثورة التحريرية، وكما حدثني عنه شخص آخر من المجاهدين في العاصمة الجزائر، فقال لي كان يشتغل سائقا في "الترامواي" أثناء الثورة، وكانت لنا معه مواعيد مع مجموعات من المجاهدين يلتقيهم وهو ممسك بالمقود، فيأمرهم وينهاهم ويوجههم وكان من بين ما ينبههم إليه هو استحضار نية الجهاد في أعمالهم القتالية فكان يقول لهم "أنا مهمتي أن تُكْتَب لكم الشهادة، لا أن تموتوا جيفا"... فتعجبت لذلك، وقلت في نفسي ما الذي جرى لهذا الرجل الذي كان في هذا المستوى من الفاعلية... وانطفأت بعد عودته إلى البلدة، ولكنه بكل أسف عاد إلى بلدة كانت يومها راكدة لا تساعد على النشاط والحركة ثم كان التغيير النظام السياسي، فتأثر بذلك.

وهناك امر آخر لا يمكن تجاهله وهو تقدم العمر، وضعف الهمم الذي يصيب الإنسان الناشط، بطول الأمد، فيرى عليه عدد الاهتمام والتقاعس والإهمال، بل ربما ينظر إليه البعض أنه مساعد على الفساد أو حجر عثرة في طريق الإصلاح والمصلحين.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
الشؤون الإسلامية في إثيوبيا تُطلق "مجلس شباب مسلمي البلاد" برؤية التمكين والقيادة والتغيير لخدمة الدين والوطن
السابق
لأسبوعهم الـ76.. آلاف المغاربة يجددون دعمهم لغزة ويرفضون التطبيع والإبادة

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع