الفريضة الخامسة في ظلال
«طوفان الأقصى»
بقلم: أ.د/ وصفي عاشور
أبو زيد
عضو الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين
المعاني، والعديد من الخسائر، وكشف عن عدد هائل من الحقائق التي
كان بعضُها مُسلَّماً، وكان البعض الآخر فيه شك؛ فأصبحت جميع هذه الحقائق أضوأ من
الشمس، وأوضح من فَلَق الصبح، وأبينَ من غُرّة النهار.
في الحج الأكبر معانٍ عظيمة، وحِكَم جليلة، ومقاصد جامعة كبرى،
يجب على المسلمين أن يفقهوها، وأن يسعوا إلى تحقيقها، ويستنزلوها لواقع حياتهم؛ كي
يكون للشعائر أثر في حياتهم ومعاشهم؛ فضلاً عن دينهم ومعادهم.
ولا أهمَّ في الاستهداء بالشعائر من الحدث الأكبر الذي تحياه
الأمة والعالم اليوم، وهو معركة «طوفان الأقصى»، تلك المعركة التي مر عليها 20
شهراً حتى اليوم، وما زالت الحرب لم تضع أوزارها حتى كتابة هذه السطور، ومن المعاني التي نستثمرها من الحج لـ«لطوفان الأقصى»:
أولاً: توحيد الله تعالى:
إن المتأمل في فريضة الحج يجد أعظم مقصد فيها هو توحيد الله
تعالى؛ ابتداء من ترك الأوطان والأهل والأعمال، في حالة متفردة من التوجه إلى الله
وابتغاء رضاه، وفي صورة من صور الرحلة إلى الله تعالى، ومروراً بالتلبية والتهليل
والتكبير، والمناسك التي أقيمت لذكر الله تعالى.
أعظم مقصد في الحج توحيد الله
ابتداء من ترك الأوطان والأهل والأعمال والتوجه إلى الله وابتغاء رضاه
وهذا التوحيد وتقريره في النفوس وتعميقه في الصدور هو الذي يثمر
الإقدام على القتال، وإغماس النفس في صفوف العدو، وطلب الشهادة بإقدام لا إحجام
معه، وهو الذي يحمل أمهات الشهداء وآباءهم وزوجاتهم على الصور الرائعة التي
رأيناها في الصبر والرضا والاحتساب؛ ما كان مثار إعجاب الإنسانية.
ثانياً: وحدة الأمة:
الأمة في الحج واحدة متوحدة؛ حيث يتّحد في الحج المكان والزمان
والإنسان؛ المكان هو مكة وأماكن النسك فيها، والزمان هو ذو الحجة، والإنسان يجتمع
في هذا المكان والزمان بلا فروق في التوقيت ولا مسافة في الأماكن، فلا توجد عبادة
يتوحد فيها الزمان والمكان والإنسان سوى فريضة الحج!
الإله الذي يتوجه له المسلمون ويصمدون إليه هو إله واحد،
والمناسك التي يؤديها المسلمون في هذه الفريضة واحدة، والقبلة التي يتوجهون إليها
واحدة، ويصلون خلف إمام واحد، ويطوفون حول كعبة واحدة، ويسعون في مكان واحد.. فكل
ما في الحج ينادي بوحدة الأمة وتوحيدها.
وفي ظل «طوفان الأقصى»، ماذا نرى؟ إننا لا نرى سوى الخذلان من
الأمة نحو أهل غزة، إلا من رحم الله، اجتمع على أهل غزة العدو والصديق، وخُذل
أهلها في وقت يحبون فيه النصرة؛ ولهذا جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن معاوية
بن أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَزالُ مِن أُمَّتي أُمَّةٌ
قائِمَةٌ بأَمْرِ اللَّهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، ولا مَن خالَفَهُمْ،
حتّى يَأْتِيَهُمْ أمْرُ اللَّهِ وهُمْ على ذلكَ» (1).
فبدلاً من أن تكون الأمة في مواجهة هذا الحدث الكبير واحدة
وموحّدة، ها هي متفرقة بفعل حكامها، وبعض علماء السوء فيها، وأصبحت الأمة تعاني من
حالة عجز غير مسبوقة، ومن هنا نقول: إن فريضة الحج تأمرنا بتوحيد الله ووحدة الأمة
أمام التحديات والواجبات التي ستكون محل سؤال الله لنا يوم القيامة.
ثالثاً: تقرير فريضة الجهاد:
في القرآن الكريم سورة تسمى «الحج»، تحدثت عن كثير من مناسك
الحج ودروسه وعبره ومعانيه، وفي نهايتها قال الله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)
(الحج: 78)، وأخرج السيوطي في «الجامع الصغير» عن الشفاء بنت عبدالله أن رجلاً أتى
النبي صلى الله عليه وسلم يسأله الجهاد فقال له: «أَلا أدُلُّكَ على جِهادٍ لا
شوكةَ فيه؟ حجُّ البيتِ» (2).
الأمة يجب أن تنتقل من الحج وهو جهاد لا شوكة فيه إلى جهاد
أعداء الأمة لتحرير الأوطان والمقدسات
ففي الآية القرآنية يختم الله تعالى سورة «الحج» بالأمر
بالجهاد، وهذا أمر يتعاظم فوق كل شيء، وهي إشارة في آخر السورة إلى أن الأمة يجب
أن تنتقل من فريضة الحج وهي جهاد لا شوكة فيه إلى الجهاد ذي الشوكة، جهاد أعداء
الأمة، ومراغمتهم وقتالهم لتحرير الأوطان، واستنقاذ الأسرى وتطهير القدس و«الأقصى».
وهذا ما يقوم به المجاهدون في «طوفان الأقصى»؛ حيث أحيوا في
الأمة معنى الجهاد، وأعادوه إلى الواجهة بعد أن كان مرتبطاً بـ«الإرهاب» وكاد أن
يختفي من الساحة؛ فجاءت المعركة لتعيده إلى العقول، وترسخه في النفوس، وترتبط
الأمة من خلاله بمعاني الشرف والبطولة والفداء.
رابعاً: تعظيم شعائر الله:
ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم مع مناسك الحج، قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن
تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32)، فالناس يستعدون لأداء هذه الفريضة،
ويجهزون لها، ويتركون أولادهم وأهاليهم، وهذا من تعظيم شعائر الله.
وإن الجهاد وما يتجسد فيه الآن على أرض فلسطين هو من شعائر
الله؛ فيجب تعظيم ما يقوم به المجاهدون الأبطال هناك، كما يجب تعظيم رابطة الأخوة،
والقيام بمقتضاها من واجب النصرة وواجب التداعي؛ استجابة للتوجيه النبوي الشريف: «مَثَلُ
المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا
اشْتَكى منه عُضْوٌ تَداعى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمّى»(3).
خامساً: الجهاد بالمال:
إذا كان الحج هو جهاد الضعفاء، فإن فيه يتجلى الجهاد بالمال
أيضاً، فالحج له نفقات، وبوجود هذه النفقات وتوفرها عند المسلم تجب عليه الفريضة،
وهو يجاهد شحَّ نفسِه حين ينفق هذا المالَ في القيام بفريضة من فرائض الله تعالى.
ولا شك أن إعطاء المال وإنفاقه في القيام بالفرائض وفي وجوهه
ومصارفه هو نوع من الجهاد نص عليه القرآن الكريم؛ فالقرآن يقدم دائماً الجهاد
بالمال على الجهاد بالنفس، قال تعالى: (لاَّ
يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ
اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ
دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ
عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:
95).
وفلسطين اليوم أحوج ما تكون إلى المال، حيث إن غزة تموت جوعاً
وعطشاً، وإن البنية التحتية لغزة التي دمرت تحتاج لإعادة إعمار؛ فالمال نحتاج إليه
قبل الجهاد وأثناء الجهاد وبعد الجهاد.
_______
(1) صحيح البخاري (3641)، وأخرجه مسلم (1037).
(2) صححه الألباني في صحيح
الجامع الصغير وزياداته (2611).
(3) صحيح البخاري (6011)، وأخرجه مسلم (2586)، بسندهما عن
النعمان بن بشير.