البحث

التفاصيل

الحاكم المتغلب والعدو المتغلب

الرابط المختصر :

الحاكم المتغلب والعدو المتغلب

بقلم: د. محمد عوام

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

دار بيني وبين أحد الإخوة نقاش حول قضية التطبيع، ذهب إلى أنه يمكن قياس العدو الإسرائيلي على الحاكم المتغلب، فنعقد معه صلحا ونقيم معه تطبيعا ولو لمرحلة. وإن كنت في الحقيقة لا أرتضي الخلاف في مثل هذه القضايا، المعلومة من ثوابت الأمة بالضرورة، ولا ينبغي أن يتطرق إليها الخلاف، بل لا تحتمله البتة، لأن من يحتل أرض المسلمين، ويسفك دماءهم، ويستبيح أعراضهم، ويبدد أموالهم، وينتهك كافة حرماتهم، فهذا بلا ريب عدو متغلب بقوة السلاح، وبمساعدة الغرب وغيره، فالحل الوحيد مع العدو المتغلب هو المقاومة بشتى أنواعها وأشكالها، من المقاومة بالسلاح والجهاد، إلى المقامة بالمقاطعة الشاملة لكافة بضائعه التجارية، إذ لا جرم أن شراء بضاعة العدو تعتبر أكبر دعم له للمزيد من الغطرسة والقهر والهيمنة والتوسع والاستحواذ، ولهذا فالتطبيع يدخل في استراتيجية دعم العدو الإسرائيلي المتغلب.

وهذه الأشكال من المقاومة هي التي اعتمدها المغاربة في محاربة الاستعمار الفرنسي الخبيث، حتى سمعنا من آبائنا وأجدادنا أنهم يقاطعون أبسط بضائعهم، ولربما كانت من ضروريات الحياة، لكن في ميزان القوى والدفاع عن النفس كان لها وقعها وأثرها. ثم إن العدو المتغلب لا صلة له بالأمة، بمعنى ليس فردا من أفرادها، ولا انتماء له بها، فهو جسم غريب، وكيان دخيل، مقصده الأساس تفتيت الأمة وتمزيقها، والسيطرة عليها.

أما الحاكم المتغلب، فهو فرد من أفراد الأمة، ومن أبنائها، غير أنه استبد بالحكم بقوة السلاح، وبغا على الأمة. والفقهاء تطرقوا إلى أحكام الحاكم المتغلب، فمنهم من أجاز بعض تصرفاته إن كانت موافقة للشريعة، حتى لا تتعطل المصالح، وإن كنت اليوم لا أرى لمثل هذا الفقه مسوغا، أمام تطور الفكر المؤسساتي، بل رفضه كثير من العلماء، وحتى الذين أجازوا تصرفاته كان ذلك عندهم من باب الضرورة. وأنا أرى أن الحاكم المتغلب الذي لم ترتضه الأمة، ولم تقبله، عليها أن تقاومه، مثلما تقاوم العدو المتغلب، لأن العلة الجامعة بينهما هي التغلب والاستبداد والطغيان.

وأذكر هنا في هذا السياق أن بعض علماء المغرب منهم من كفر المتوكل المسلوخ حين استنجد بالبرتغال، ليأخذ الحكم بالتغلب، واعتبروا ذلك خيانة وردة، وقد كان مصيره أن قتل في معركة وادي المخازن الشهيرة مع سيبستيان. ومثله وقع أيضا من قبل من علماء الأندلس في حق من استنجد من ملوك الطوائف بالنصارى الإسبان ليحارب إخوانه المسلمين، حتى جاء أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين فقضى على هذا العبث والتسفل الذي وقع، ولقي في ذلك نصرة من العلماء وقد وفدت إليه في ذلك فتاوى كبار أهل المشرق والأندلس من أمثال الغزالي والطرطوشي وغيرهما كما ذكر ابن خلدون في تاريخه.

ومع الأسف لازال فقهنا، أو بعض فقهائنا، يجترون المقولات الفقهية، التي أصبحت اليوم متجاوزة، بل تعارض في أصلها مقاصد الشريعة في إنشاء الدولة، من العدالة والكرامة والمساواة والحرية والشورى وبناء دولة المؤسسات، لازلنا ننهل من فقهنا القديم في مجال السياسة الشرعية والحكم، مع العلم أن معظمه مرتبط بزمانه وظروفه التاريخية، لقد كان علينا أن نبني فقهنا السياسي بناء على الكليات الشرعية، والمبادئ القرآنية العامة، فهل يعقل اليوم –مثلا- أن نردد القاعدة الفقهية (تصرف الإمام منوط بالمصلحة) كأن الإمام يخترق الحجب، ويملك من القدرات ما لا نجد مثلها أو أحسن منها عند غيره، فهو الملهم، والمسدد، والعبقري اللوذعي. أليس حري بنا أن نحور هذه القاعدة، ونجعل منها قاعدة مؤسساتية، بمعنى أن تصرف مؤسسات الدولة منوطة بالمصلحة، وفق الشريعة الإسلامية ووفق مصالح الأمة، فنخرج بذلك من الفردانية في الحكم إلى تدبير الشأن العام بشكل جماعي مؤسساتي. ونحن نجد فقهاءنا العظام قد ألزموا الحاكم بالشورى إلى أن صرح ابن خوزمنداد من المالكية بأن الحاكم الذي لا يستشير وجب عزله.

إن انعدام مراجعة فقهنا السياسي، على ضوء المقاصد والكليات القرآنية، ورط علماء التطبيع، في الاستدلال بالقاعدة الفقهية السابقة، وتوظيفها لخدمة حكام التطبيع، من غير نظر في المآلات، التي يلهجون بذكرها في كثير من الندوات والمؤتمرات، الناجمة عن هذا التطبيع المشؤوم، أعطوا الصلاحية للحاكم في اتخاذ القرارات، وسحبوها عن المؤسسات، في الوقت ذاته الذي يتغنون بالشورى ويمدحونها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستشير أصحابه في كل شيء، في تدبير دولته، أليس هذا قمة التناقض الذي يهوي بعلماء التطبيع وأضرابهم ويجعلهم أضحوكة الزمان والخذلان؟

من هنا أقول إن قياس العدو المتغلب على الحاكم المتغلب قياس فاسد، وعلى الأمة أن تقاوم العدو الذي يحتل أرضها وينتهك حرماتها، وهذا ينسجم مع فطرة الإنسان التي لا ترضى بالذل والهوان، ولا تستكين إلى المجرمين، كما أن فكرة الحاكم المتغلب قد عفى عنها الزمان، ولم تعد لها أي مصداقية لا شرعية، ولا عقلية، ولا شعبية، فالشعوب ترفض الحاكم المتغلب، أعني كافة الشعوب، فقط عنده "مصداقية" عند الساسة الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، فهؤلاء يجدون مآربهم في وجود الحاكم المتغلب، مثل ما وقع في مصر.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* يندرج هذا المقال ضمن الحملة العالمية للثوابت الشرعية، التي أطلقتها لجنة الثوابت والفكر الإسلامي بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، تأكيدًا على شعارها: "ثوابتنا أُسُسُ دينِنا ومعالمُ نهضتنا".

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
مشروع بناء الدولة الحديثة (2): "ربانية الدستور الإسلامي"
السابق
غزة الجريحة.. هل أصبحت دماء أهلها رخيصة؟! وأين الضمير العربي والدولي؟!

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع