البحث

التفاصيل

جريمة الحصار والتجويع.. ممارسة جاهلية تتجدد في ظل الصهيونية المعاصرة!

الرابط المختصر :

جريمة الحصار والتجويع.. ممارسة جاهلية تتجدد في ظل الصهيونية المعاصرة!

كتبه: د. إبراهيم أحمد مهنا

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

الحصار في اللغة: من الحصر، قال ابن فارس: الحاء والصاد والراء أصل واحد، وهو الجمع والحبس والمنع(1)، وقال الراغب: الحصر: التضييق، قال عز وجل: (وَاحْصُرُوهُمْ) (التوبة: 5)؛ أي: ضيقوا عليهم، وقال عز وجل: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً) (الإسراء: 8)؛ أي: حابساً(2).

والجوع: الألم الذي ينال الجائع من خلو المعدة من الطعام، ويقال: رجل جائع وجوعان: إذا كثر جوعه(3).

والحصار في الاصطلاح: تكتيك عسكري يُستخدم لعزل منطقة معينة ومنع وصول الإمدادات إليها، بهدف إجبار الطرف المحاصر على الاستسلام أو تحقيق أهداف إستراتيجية أخرى.

وقد حظر القانون الدولي الإنساني تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، ولا يجوز للطرف الذي يفرض الحصار أن يعمد إلى حرمان المدنيين من الإمدادات الأساسية لبقائهم على قيد الحياة (مثل الغذاء والمياه والإمدادات الطبية) في منطقة محاصرة، وأن يتخذ ذلك وسيلة مشروعة لإخضاع عدوه.

وعليه، تُحظر أشكال الحصار التي تُفرض بهدف تجويع السكان المدنيين، ويتعين على الطرف الذي يفرض الحصار الذي يلجأ إلى استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب ضد القوات المعادية أن يضمن أن تستهدف آثاره حصراً تلك القوات المعادية، ولا يمكن تبرير استخدام التجويع بوصفه أحد أساليب الحرب بطريقة تسفر عن حرمان المدنيين أيضاً من الإمدادات الأساسية لبقائهم على قيد الحياة عبر تأكيد أن الغرض منه كان فقط تجويع القوات المعادية.

القانون الدولي الإنساني حظر تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب

ومتى وُجد مدنيون عالقون في المنطقة المحاصرة، يتعين على الطرف الذي يفرض الحصار السماح لهم بمغادرة المنطقة، إذ ثبت من واقع التجربة أن هؤلاء المدنيين سيطالهم نصيب من الحرمان الذي يتسبب فيه الحصار، ومن المتوقع ألا يكونوا قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية، وإذا ما بقي مدنيون في المنطقة المحاصرة رغم ذلك، فيجب على الطرف الذي يفرض الحصار الامتثال لقواعد القانون الدولي الإنساني المتعلقة بالإغاثة الإنسانية للمدنيين(4).

وهناك نصوص قانونية في القانون الدولي الإنساني تحدد القيود المفروضة على الحصار العسكري، خاصة عندما يؤثر بشكل مباشر على المدنيين، على سبيل المثال، المادة (54/ 1) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، تحظر استخدام التجويع كأسلوب حرب؛ ما يعني أن أي حصار يؤدي إلى حرمان المدنيين من الغذاء والمياه قد يُعتبر غير قانوني، كما أن المادة (14) من البروتوكول الإضافي الثاني تحظر تجويع السكان المدنيين في النزاعات غير الدولية؛ ما يضع قيوداً إضافية على استخدام الحصار في الحروب الداخلية(5).

وهذه النصوص المدرجة في القانون الدولي الإنساني لا ترقى إلى ما ذهبت إليه أحكام الشريعة الإسلامية، التي منعت بشكل قاطع المساس بغير المقاتلين (المدنيين) ومنعت الممارسات التي تفضي إلى تعرضهم للموت؛ لذا كان التجويع المتعمد من الممارسات غير المشروعة في الإسلام؛ ذلك أن الحرب في الإسلام وسيلة لدفع الظلم ونصرة المستضعفين وإزالة العقبات لتبليغ دعوة الله.

وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل النساء والصبيان، قال البغوي: «والعمل على هذا عند أهل العلم، أنه لا يقتل نساء أهل الحرب وصبيانهم إلا أن يقاتلوا فيدفعوا بالقتل»(6)، والأصل في ذلك قوله تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً ولا صغيراً، ولا امرأة»(7)، فلا يجوز قتل من لا يملك القدرة على القتال، قال الإمام أحمد: وقد أومأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه العلة في المرأة التي وجدت مقتولة: «ما بال هذه قتلت؟ لم تقاتل»(8)، وألحق كثير من الفقهاء المدنيين غير المقاتلين بهؤلاء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قل لخالد لا يقتلن امرأة ولا عسيفاً»(9)؛ أي: أجيراً.

إن الحصار والتجويع هما من أبشع صور الحرب التي استُخدمت على مدار التاريخ لإخضاع العدو أو كسر إرادته، وقد استخدمتهما أطراف متعددة ضد خصومها، والحصار والتجويع جريمة حرب وفق القانون الدولي الإنساني، ووسيلة لا أخلاقية لاجتثاث الشعوب والإذلال الجماعي، وقد استخدمها المعتدون في مختلف العصور ضد الأبرياء لكسر إرادتهم.

وتاريخ الحروب حافل بأمثلة على استخدام الحصار بوصفه أسلوباً من أساليب القتال، ولعل حصار قريش لبني هاشم في شِعب أبي طالب من أبشع هذه الصور في عصر الجاهلية، ذلك أن المحاصَرين لم يكونوا مقاتلين، بل كانت تربطهم بالمحاصِرين علاقات الجوار والمصاهرة والمواطنة، فقد فرضت قريش حصاراً اقتصادياً واجتماعياً على بني هاشم، ابتدأ في العام السابع قبل الهجرة واستمر نحو 3 سنوات، تم خلاله تجويع المحاصَرين ومنع التجارة والطعام عنهم، حتى أكل بعضهم أوراق الشجر.

وحاصر الصليبيون القدس في عام 1099م مدة 7 أسابيع، منعوا خلالها دخول المؤن والطعام، ثم اقتحموها وارتكبوا مجزرة عظيمة، حيث قتلوا الآلاف داخل المسجد الأقصى، بعد تجويعهم ومحاصرتهم.

العالم ما زال متخاذلاً تجاه وقف الإبادة وما زالت غزة تستصرخ الأمة.. فهل من مجيب؟!

وفرض المغول حصاراً محكماً على بغداد، أدى إلى مجاعة شديدة، ثم اقتحموها وقتلوا مئات الآلاف، ووصف المؤرخون أن الناس أكلوا القطط والكلاب من شدة الجوع.

وفي عام 1492م، حاصرت مملكة قشتالة الإسبانية غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، لعدة أشهر، حتى نفدت المؤن ووقع التجويع الجماعي؛ ما اضطر أهلها للاستسلام بعد وعد كاذب بالأمان.

وفي عام 1941م، حاصرت ألمانيا النازية مدينة لينينجراد، واستمر الحصار أكثر من 800 يوم خلال الحرب العالمية الثانية، مات فيه أكثر من مليون شخص جوعاً وبرداً، ويُعد من أبشع صور التجويع كسلاح عسكري في العصر الحديث.

وفرض نظام بشار الأسد المجرم عام 2015م حصاراً على مضايا والزبداني استمر نحو سنتين، حيث منع دخول الغذاء والدواء؛ ما أدى إلى وفاة مدنيين جوعاً، وتم توثيق حالات أكل أوراق الشجر وأعشاب الأرض.

والآن، فإن الصهيونية المعاصرة ممثلة في الكيان الصهيوني ومن يدعمها قد مارست أبشع أنواع الحصار والتجويع على قطاع غزة، وقد بدأ الحصار منذ عام 2007م، وسرعان ما تحول بعد 7 أكتوبر 2023م إلى إبادة جماعية، وما زلنا نعيش بشاعة هذا الحصار الذي طال الشجر والحجر فضلاً عن البشر، وكان المدنيون العزل هم الضحية المفضلة لهذا الكيان المجرم، خاصة النساء والأطفال، فمن لم يمت بالقصف العشوائي، فإنه معرض للموت جوعاً وظمأ ومرضاً.

إلا أن العالم ما زال عاجزاً أو متخاذلاً تجاه وقف هذه الإبادة الجماعية البشعة، وما زال أهلنا في غزة يستصرخون الأمة الإسلامية وأحرار العالم، فهل من مجيب؟!

 

________

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

 

(1) ابن فارس، مقاييس اللغة، مادة «حصر».

(2) الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة «حصر».

(3) المرجع السابق، مادة «جوع».

(4) الموقع الإلكتروني للصليب الأحمر الدولي، مقال بعنوان «حماية السكان المدنيين في حالات الحصار: ماذا يقول القانون؟»، بتاريخ 5 فبراير 2024م.

(5) مجلة الإنساني، تصدر عن المركز الإقليمي للإعلام، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، مقال بعنوان «هل يحظر القانون الدولي المعاصر استخدام أسلوب الحصار العسكري»، 19 فبراير 2019م.

(6) البغوي، شرح السنة (11/ 47).

(7) رواه أبو داود (ح2247).

(8) ابن قدامة، المغني (8/ 477).

(9) رواه أبوداود (ح2295، 3379)، وابن ماجة (ح2832)، وأحمد (ح5688).


: الأوسمة


المرفقات

التالي
أوائل ذي الحجة، استعداد فإمداد
السابق
بريطانيا.. مدينة شيفيلد تعيّن أول امرأة مسلمة محجبة عمدة لها

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع