البحث

التفاصيل

نائب رئيس الاتحاد: "فقه الميزان ضرورة شرعية ووحدة منهجية لمواجهة التشرذم والاضطراب"

الرابط المختصر :

نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: "فقه الميزان ضرورة شرعية ووحدة منهجية لمواجهة التشرذم والاضطراب"

 

في كلمته بالجلسة الافتتاحية لمؤتمر "فقه الميزان" المنعقد في إسطنبول يومي 21 و22 يونيو الجاري، شدد فضيلة الأستاذ الدكتور عصام أحمد البشير نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، على أن "الميزان" في القرآن ليس مجرد أداة مادية، بل مبدأ كوني وتشريعي وأخلاقي وجزائي، مؤكدًا أن الجهل بفقه الميزان يؤدي إلى اضطراب الأحكام واختلال المفاهيم وتفكك الأمة.

وإليكم النص الكامل لكلمته:

فقه الميزان

الحمد لله الذي أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الحق والعدل وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

معالي رئيس شؤون الديانات التركية الدكتور علي أرباش

فضيلة الشيخ أ. د/ علي قره داغي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الأستاذ الدكتور عبد الرحمن أوزدمير عميد كلية العلوم الإسلامية بجامعة محمد الفاتح الوقفية

اللجنة العلمية والسادة الحضور الكرام من العلماء والباحثين.

بداية أثمن هذه التوأمة العلمية بين هذه الجامعة العريقة والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مع وقف علماء الإسلام في استقطاب هؤلاء الباحثين والعلماء من مختلف البلاد والتخصصات، عبر المؤتمر الذي يبحث موضوعا مهما وهو فقه الميزان في الشريعة الإسلامية.

ثم إن غاية الشريعة ومقصدها العلي هو أن يقوم النَّاسُ بالقسط، ولا يتحقق هذا الأمر إلا بفقه الكتاب والميزان، فقها يميز صاحبه بين الأصول والفروع، والثوابت والمتغيرات، وبين ما كان حقا الله وما كان حقا للمخلوق، وبين الحكم المقتضي للامتثال والتسليم، والرأي القابل للنظر والاجتهاد، فقها يدرك صاحبه مواطن تنزيل الحكم، وكيفية التنزيل، فقها يُصاغ من منطلقاته الخطاب الإسلامي المعاصر، وتبنى على أسسه آليات التجديد، ويُضبط وفق ضوابطه الاجتهاد، وتبنى على قواعده الفتوى.

أيها الأحباب من العلماء الكرام والباحثين الجادين

إن كلمة الميزان في القرآن الكريم من الكلمات العميقة ذات الدلالات الواسعة، وهي من المفردات المركزية في موضوع العدل والحق والجزاء. فكانت الموازين المختلفة في القرآن وهي:

1/ الميزان الكوني:

قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: 1–9].

2/والميزان التشريعي: فأحكام الشريعة تحقق العدل بين الناس والانصاف في الحقوق

قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾

3/والميزان السلوكي الأخلاقي: من خلال الموازنة بين الحقوق والواجبات في الأخلاق والمعاملات

وتحقيق العدل الاقتصادي في التعامل بين الناس

قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ [الأنعام: 152]،

وقال تعالى: ﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ [الشعراء: 182].

4/والميزان الجزائي: توزن به أعمال العباد يوم القيامة

قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ [الأنبياء: 47]

فكلمة "الميزان" في القرآن ليست مجرد أداة مادية، بل هي مبدأ كوني، وتشريعي، وأخلاقي، وجزائي. إنها رمز العدل في خلق الله وتشريعه وحسابه. قال الإمام الرازي: "الميزان في الدنيا والآخرة تجلٍّ لحكمة الله، والعدل أصله وركنه".

والفرق بين "وضع الميزان" و*"إنزال الميزان" في القرآن الكريم، هو فرق دقيق وبلاغي، يكشف عن تنوع في مراتب العدل، بين ما هو كوني تكويني، وبين ما هو شرعي تشريعي بين قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ وقوله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾.

قال الإمام الرازي: (وضع الميزان: أي أقام النظام والتوازن في الخلق، وأنزل الميزان: أي شريعة العدل ليحكم بها بين الناس)

ففي السماء والأرض والخلق والكون: "وضع الميزان"

وفي الدين والحياة، والتشريع والعبادات: "أنزل الميزان"

فمن خالف الميزان الكوني تأذى وخسر دنياه.

ومن خالف الميزان التشريعي ضلّ وهلك في أخراه

أيها الجمع الكريم:

من هذه المعاني القرآنية الدقيقة جاء فقه الميزان ليضع بين يدي المجتهد الأسس التي يبني عليها إطار مشترك يجمع الأمة ويُوحدها، ويقيها فتنة التشرذم والاختلاف، ويُبيِّن طبيعة الظنيات ومجال الاجتهادات التي لا يجوز أن تفترق لأجلها الصفوف، ولا يصح أن يُعقد عليها ولاء وبراء، وإنَّ الجهل بهذا النوع من الفقه يُؤدِّي إلى عدم القدرة على فهم علل الأحكام وإدراك حكمها ومقاصدها، فتنحرف بسبب الجهل به المفاهيم، وتُنَزَل في غير حالها الأحكام، وتنحرف بوصلة الخطاب، فتُبنى الثقافة على مصطلحات زائفة، ويقوم الفكر على مفاهيم مغلوطة، وتجد الفرقة والاختلاف بيئتها الخصبة، ومرتعها السهل.

وتتجلى أهمية هذا الفقه وقيمته في أنه يسهم في فهم النصوص وترشيد الاجتهاد، ويعصم المجتهد من الوقوع في مغبة الانحراف المنهجي؛ إذ به يُعرف أن لكل شيء قدره، فالعقائد لا تتساوى مع الشرائع، والثابت لا يساوي المتغير، والحكم لا يكون والرأي في مقام واحد، والسياسات غير العبادات.

ونحن بحاجة لبحث عميق في أنماط أخرى تشتد إليها الحاجة في عصرنا؛ كفقه ميزان الإقدام والإحجام»، وميزان المبدئيات والمرحليات»، وميزان التجديد بين التهيب والتسيب»، وفقه ميزان النهضة والشهود الحضاري»، وميزان المشترك الإنساني، وميزان الأقليات بين الاندماج دون ذوبان والخصوصية دون انغلاق، وميزان التأسيس لحلف فضول عالمي عادل وفاعل، وميزان السنن الكونية والاجتماعية»، وميزان التدين بين الفرد والجماعة والدولة والأمة، وميزان العلاقات الدولية بين المبادئ والمصالح.

لقد مارس العلماء والأئمة المجتهدون من سلفنا هذا النوع من العلم في استنباطهم وفتاويهم، غير أنه لم يدون علما مستقلا بذاته؛ لأجل هذا كان من الضرورة بمكان أن يجد هذا النوع من الفقه طريقه إلى النور من خلال البحث والمدارسة، وقد حاز فضل السبق إلى تدوينه أخونا الحبيب العلامة الدكتور علي القره داغي، وقد انشغل به نحوا من ربع قرن، فكان مشروعا مباركًا وجهدًا كريما.

أتمنى للباحثين والسادة العلماء المشاركين في هذا المؤتمر العلمي الرصين الخير والتوفيق وسداد القول ودقة البحث.

 

الشيخ أ. د. عصام أحمد البشير

نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

رئيس مؤسسة أمناء الأقصى - للدعاة وخريجي الشريعة

٢٥ ذو الحجة ١٤٤٦هـ / 21 يونيو 2025م


: الأوسمة


المرفقات

التالي
اقتران الهجرة والجهاد في القرآن والسنة ودلالته
السابق
تصاعد الغضب الشعبي العالمي ضد الاحتلال الصهيوني: مظاهرات في مدريد وصنعاء نصرة لغزة

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع