البحث

التفاصيل

اقتران الهجرة والجهاد في القرآن والسنة ودلالته

الرابط المختصر :

اقتران الهجرة والجهاد في القرآن الكريم والسنة النبوية

ودلالته الدعوية والتربوية والحضارية.

بقلم: د. توفيق زبادي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإنّ من سنن الله الجارية في حياة الأمم والشعوب، أن طريق التمكين محفوفٌ بالابتلاء، وأنه لا يُنال النصر والتمكين إلا بعد صبرٍ وتضحية. ولقد رسم الإسلام معالم هذا الطريق بوضوح في سيرة النبي ﷺ وأصحابه، وكان من أبرز معالمه "الهجرة" و"الجهاد"، اللذان اقترنا في عدد كبير من النصوص القرآنية والنبوية، مما يشير إلى دلالة عميقة تستحق التوقف والتأمل.

لقد كانت الهجرة من أعظم التضحيات التي قدمها الصحابة رضوان الله عليهم، حين فارقوا أوطانهم وأموالهم وأهليهم، في سبيل الحفاظ على عقيدتهم وإقامة دينهم، بينما كان الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وسبيلاً لنشر الحق ودفع الباطل وإعلاء كلمة الله.

وقد تكرّر اقتران الهجرة بالجهاد في مواضع عدة من القرآن الكريم، وكذلك في السنة النبوية، اقترنت الهجرة بالجهاد في عدد من الأحاديث التي تشير إلى مركزية هذين الركنين في مسيرة الأمة وبنائها الحضاري.

أبرز مواضع اقتران الهجرة بالجهاد في القرآن الكريم

لقد ورد اقتران الهجرة بالجهاد في عدد من المواضع في القرآن الكريم، بصورة متكررة ولافتة، مما يدل على أهمية هذا الارتباط في البناء العقدي والمنهجي للمسلم والمجتمع المسلم، وعلى محورية الهجرة والجهاد في مشروع الأمة الحضاري.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ}[الأنفال:72]

هذا وصف للمهاجرين وبيان أنهم "خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وجاؤوا لِنَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ، وَبَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ" ([1]).

وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون}[التوبة:20]

أي:  لا يفوز بالمطلوب ولا ينجو من المرهوب، إلا من اتصف بصفاتهم، وتخلق بأخلاقهم.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ }[الأنفال:75]

في هذه الآية بيان للانتماء الحقيقي إلى جماعة المسلمين، وأنه لا يتم إلا بالهجرة والجهاد، وليس بالإيمان النظري وحده.

وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيم}[النحل:110]

في هذه الآية إشارة إلى من تأخروا في الهجرة، ثم تابوا وجاهدوا وصبروا، فبيّن الله أن باب المغفرة مفتوح لهم، مما يدل على أن الهجرة والجهاد معياران لمغفرة الذنوب بعد الفتنة والتقصير.

دلالات اقتران الهجرة بالجهاد في القرآن الكريم

1.    الاقتران التأسيسي لمسيرة التمكين:

جاء هذا الاقتران في إطار الحديث عن بناء المجتمع المسلم وتمكينه؛ فالهجرة كانت لحفظ الدين وتأسيس الدولة، والجهاد لحماية المشروع الإسلامي والدفاع عنه، وبالتالي فإن اقترانهما ليس عرضيًا، بل تأسيسيًا.

2.    الهجرة مقدمة لازمة للجهاد في سبيل الله:

جاء الترتيب في الآيات على النحو التالي: إيمان ثم هجرة ثم جهاد، مما يدل على أن الهجرة كانت مرحلة انتقالية ضرورية قبل الشروع في الجهاد؛ لأن الجهاد يتطلب كيانًا قائمًا، ودارًا للإسلام.

3.    التمييز بين المؤمنين بالعمل والتضحية:

الآيات فرّقت بين المؤمنين الذين اقتصروا على الإيمان دون عمل وتضحية، وبين الذين قرنوا إيمانهم بالهجرة والجهاد، وجعلت الفئة الثانية أعظم درجة عند الله، كما في قوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:95]

4.    المهاجرون المجاهدون هم قاعدة المجتمع الإسلامي الأول:

كل من مدحهم الله في صدر الإسلام كانوا من المهاجرين المجاهدين، كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم}[التوبة:100]

فجمع لهم السبق، والهجرة، والجهاد، والصحبة، مما يدل على مكانة هذه العناصر في تأسيس الأمة.

5.    الاقتران كمعيار للاصطفاء والاختيار:

جاء في القرآن أن الله اصطفى من عباده المهاجرين المجاهدين، فقال: {فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً }[النساء:95]، وهذا الاصطفاء لم يكن فقط للإيمان، بل للهجرة والجهاد، وهو اختيار لأهل النصرة والبذل.

اقتران الهجرة والجهاد في السنة النبوية:

كما ورد اقتران الهجرة بالجهاد في القرآن الكريم في سياقات متعددة؛ فقد ورد كذلك في السنة النبوية في مواضع عديدة تؤكد على مركزية هذين الأصلين في المشروع الإسلامي، وفي تربية الجيل الأول من الصحابة، مما يُظهر عمق الترابط بينهما، ودور كل منهما في تشكيل الشخصية الإسلامية، وإقامة دعائم الدولة والدعوة.

أولًا: نماذج من اقتران الهجرة بالجهاد في السنة النبوية:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»([2]).

في هذا الحديث بيان أن الهجرة من مكة قد انتهت بعد فتحها، ولكن الجهاد باقٍ، مع التأكيد على النية في كليهما، فـ"الجهاد والنية" يمثلان الامتداد الطبيعي لمشروع الهجرة، فالهجرة فعل، والجهاد استمرار وبذل.

قال رسول الله « إنَّ الهِجْرةَ لا تَنقطِعُ ما دامَ الجهادُ»([3]).

هذا الحديث يشير إلى أن الهجرة والجهاد مستمران، ما دام الصراع بين الحق والباطل قائمًا، ولا ينقضي دور أحدهما إلا بانقضاء الآخر.

ثانيًا: دلالات اقتران الهجرة بالجهاد في السنة:

(1)         أن الهجرة تهيئة نفسية وروحية للجهاد:

فالمهاجر يخلع عن نفسه التعلقات الدنيوية، ويتجرّد لله؛ فيكون أقرب ما يكون إلى الجهاد الحقيقي. وهذا ما يظهر جليًّا في سيرة الصحابة الذين هاجروا، فجاهدوا بعد ذلك أنفسهم وأعداءهم في آنٍ واحد.

(2)         أن الهجرة اختبار صدق، والجهاد اختبار بذل:

فمن لم يستطع أن يُهاجر لنصرة دينه؛ فلن يستطيع أن يُجاهد ببذل دمه وماله؛ لذلك كان الجمع بين الهجرة والجهاد مقياسًا للتمييز بين المؤمن الحق والمؤمن المدّعي.

(3)         أن الهجرة والجهاد طريق للتمكين والغفران:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ: «تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلَّا الجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ»([4]).

فهذا الجمع بين نية الجهاد والإخلاص في الطريق إلى الله هو امتداد لمقصد الهجرة في أصلها.

دلالات عملية من اقتران الهجرة والجهاد في السيرة:

1-   أن الهجرة كانت تأسيسًا للجهاد المؤسسي:

الجهاد لا يُمارَس إلا من خلال دولة أو جماعة مسلمة قادرة، وهذا ما تحقق بعد الهجرة.

2-   أن المهاجرين المجاهدين كانوا هم النواة الصلبة للدعوة.

وُصفوا في القرآن بـ"الصادقين" و"السابقين"، ولم يكن فيهم مداهن أو متردد؛ لأنهم قد هجروا الدنيا، وأقبلوا على الله.

3-   أن الجهاد ثمره من ثمار الهجرة

فالهجرة كانت تخلّيًا عن البيئة السابقة، والجهاد تحصيلًا لبيئة الإسلام وتمكينها.

4-   أن المشروع النبوي لم يكن دعويًا فقط، بل دعويٌّ جهادي:

ولا يمكن فصل الجانب التربوي عن الجهادي، ولا السياسي عن العقدي، بل هي منظومة متكاملة، تبدأ بالهجرة وتنضج بالجهاد.

دلالات اقتران الهجرة والجهاد في البناء الحضاري للأمة:

ليس اقتران الهجرة بالجهاد في القرآن والسنة والسيرة أمرًا عرضيًا، بل هو تجلٍّ لمعادلة إيمانية حضارية عميقة، تُرشد الأمة إلى منهج النهوض وبناء الذات، وترسم الطريق للتغيير الحقيقي الذي يبدأ من داخل النفس، ويستمر في الواقع، وينتهي إلى التمكين. فالهجرة والجهاد، حين يجتمعان، يُحدثان تحولًا جذريًا في الواقع والتاريخ، ويبنيان أمة قوية في أخلاقها، مستقلة في كيانها، مرهوبة في قوتها.

أولًا: الهجرة والجهاد أساسان في صناعة الأمة:

1-   الهجرة: التخلّي عن الجاهلية:

  • تمثّل الهجرة الخطوة الأولى في التأسيس الحضاري، وهي تعني الانفكاك من التبعية، والقطع مع الباطل، وبدء مشروع جديد على أسس ربانية.
  • لا يمكن أن يُبنى مشروع نهضوي في بيئة مهزومة، أو عقلية تابعة، فكانت الهجرة رمزًا للتحرّر من التقاليد الجاهلية.

2-    الجهاد: التحلّي بالإيجابية والبذل:

  • الجهاد هو الامتداد الطبيعي للهجرة، ويمثّل الإرادة في تحقيق التغيير، والاستعداد للتضحية من أجل القيم والمبادئ.
  • لا حضارة بلا حماية، ولا نهضة بلا دفاع؛ فكان الجهاد ضرورة لاستمرار المشروع، وحمايته من الهدم والتشويه.

ثانيًا: دلالات الاقتران في منظومة النهوض:

1-   أن النهضة تحتاج فكرًا وسيفًا، عقيدةً وقوة:

  • الهجرة تمثل الجانب الفكري والإيماني والتربوي.
  • الجهاد يمثّل الجانب العملي والسياسي والعسكري.
  • والأمة لا تقوم بأحدهما دون الآخر، بل باجتماعهما تُبنى الهوية الحضارية.

2-   أن البناء يبدأ بإعداد الإنسان لا بالأبنية:

لم يكن في المدينة عند الهجرة دولة ولا مؤسسات، لكن وُجد رجال مهاجرون مجاهدون، هم الذين صنعوا الدولة بعد ذلك.

ثالثًا: أثر الاقتران في بناء الدولة النبوية:

1-   التحول من الضعف إلى القوة:

  • في مكة: الدعوة سرية ثم علنية وسط مجتمع معادٍ.
  • بعد الهجرة: نشأ جيش، وأُقيمت مؤسسات، وتم عقد المعاهدات، وأُقيمت الحدود.

2-   توازن بين الروح والقوة

  • بُني المسجد أولًا (رمز الهجرة)، ثم أُعدّت سرايا الجهاد (رمز الدفاع والتمكين).
  • لم تكن الدولة دولة قتال فقط، بل عبادة وأخلاق وعدل، ولم تكن دولة دعوة فقط، بل مهابة وقوة.

من ثمار هذا الاقتران في الحضارة الإسلامية

  • قيام حضارة عالمية بدأت من المدينة.
  • إخراج أجيال من الصحابة والتابعين، جمعوا بين الزهد والقوة، والعبادة والعلم، والجهاد والعمران.
  • انتشار الإسلام في المشارق والمغارب، ليس بالقوة وحدها، بل بالقدوة؛ لأن الهجرة صنعت الإنسان، والجهاد حرّره ونشر رسالته.

 

مبادرة مقترحة:

إصدار "دليل المهاجر المجاهد" للدعاة، يُعنى بتجديد المفاهيم، وتقديم نماذج عملية لمواجهة التحديات التربوية والمجتمعية.

خاتمة:

لقد جمع الإسلام بين "الهجرة" و"الجهاد"؛ ليصنع بهما الإنسان الذي يستطيع أن يصمد أمام الإغراء، ويجابه الاستبداد، ويُقيم دولة القيم على الأرض، وهذا الاقتران ليس ماضويًا فحسب، بل هو مشروع دائم، يختصر طريق التغيير، ويوضح سنن النصر، ويقدم للأمة مفاتيح النهضة.

فيا دعاة الحق:

هاجروا إلى الله، وجاهدوا في سبيله، وكونوا من الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم} [الأنفال:74].

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. توفيق زبادي؛ أستاذ التفسير وعلوم القرآن، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

 



[1] تفسير ابن كثير: 4/ 95.

[2]  صحيح البخاري: بَابُ فَضْلِ الجِهَادِ وَالسِّيَرِ،( 2783).

[3] التَّنويرُ شَرْحُ الجَامِع الصَّغِيرِ، للصنعاني،( 2140)، إسناده صحيح رجاله ثقات، انظر السلسلة الصحيحة للألباني،(1674)

[4] صحيح البخاري: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحِلَّتْ لَكُمُ الغَنَائِمُ»،( 3123).


: الأوسمة


المرفقات

التالي
حفاوة في مطار دوسلدورف بعودة حجاج ألمانيا.. أناشيد وزغاريد وورود
السابق
نائب رئيس الاتحاد: "فقه الميزان ضرورة شرعية ووحدة منهجية لمواجهة التشرذم والاضطراب"

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع