البحث

التفاصيل

كارثة علمية ألمت بالحنفية

الرابط المختصر :

كارثة علمية ألمت بالحنفية

بقلم: شعيب الحسيني الندوي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

أطلق على الإمام أبي حنيفة وغيره من علماء الكوفة لقب "أصحاب الرأي"، وجُرح هؤلاء الفقهاء ضحية هذا الاتهام ، فقد رأى أصحاب ظواهر الحديث إعمال العقل في فهم النصوص وتخريج المناط وتحقيق العلل واستنباط المعاني الدقيقة واستخراج الكنوز الفقهية المخبئة مخالفة للسنة ، وعدّوه من الرأي المذموم ، وهذه الكارثة سببت جرح كبار العلماء وأصحاب العلم والفضل وهم أهل الحق والسنة ، هنا أنقل عبارة للشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي من كتابه " الجرح والتعديل "، وهو يسلط الضوء على ما نحن بصدده منصفا فيقول : " وقد تجافى أرباب الصحاح الرواية عن أهل الرأي ، فلا تكاد تجد اسما لهم في سند من كتب الصحاح أو المسانيد أو السنن ، وإن كنت أعد ذلك في البعض تعصبا ، إذ يرى المنصف عند هذا البعض من العلم والفقه ما يجدر أن يتحمل عنه ، ويستفاد من عقله وعلمه ، ولكن لكل دولة من دول العلم سلطة وعصبة ذات عصبية ، تسعى في القضاء على من لا يوافقها ولا يقلدها في جميع مآتيها ، وتستعمل في سبيل ذلك كل ما قدر لها من مستطاعها ، كما عرف ذلك من سبر طبقات دول العلم ، ومظاهر ما أوتيته من سلطان وقوة .

وقد وجد لبعض المحدثين تراجم لأئمة أهل الرأي يخجل المرء من قراءتها فضلا عن تدوينها، وما السبب إلا تخالف المشرب على توهم التخالف، ورفض النظر في المآخذ والمدارك، التي قد يكون معهم الحق في الذهاب إليها، فإن الحق يستحيل أن يكون وقفا على فئة معينة دون غيرها، والمنصف من دقق في المدارك غاية التدقيق ثم حكم بعد "[1]، وقد ذكر أمثلة لهذا التعصب.

لم يكن الإمام قليل البضاعة في علم الحديث الشريف أبدا، وليس من المهملين الغافلين عن تلقي الأحاديث ودراستها، بل كان رحمه الله ممن عني بعلم الكتاب والسنة وسعى في طلب الحديث، ويعد من الأوائل الذين كانوا يعرجون على الأقوياء من الثقات وترك الضعفاء من الرواة أو ممن عرف بالكذب، ولم يكن يعمل الرأي المجرد نابذا الحديث الثابت، بل كان من أصوله أن يرجح الحديث الضعيف على القياس لذا يحكم بنقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة ترجيحا ضعيف الحديث على القياس.

وقد اعترف له بالحرص والعناية بطلب الحديث وحفظِه كبارُ المحدثين وأئمة الجرح والتعديل، إليكم بعض الشهادات، يقول الحافظ الذهبي: " وعني بطلب الآثار وارتحل في ذلك "[2]، ويقول أيضا: " فإن الإمام أبا حنيفة طلب الحديث وأكثر منه في سنة مئة وبعدها "[3]، ويقول الإمام الحافظ عبد الله بن داود الخريبي: "يجب على أهل الاسلام أن يدعوا الله لأبي حنيفة في صلاتهم، قال: وذكر حفظه عليهم السنن والفقه ".[4]

وعن عبيد الله بن عمرو قال : " قال الأعمش لأبي حنيفة : يا نعمان ما تقول في كذا وكذا ، قال : كذا وكذا ، قال : من أين قلت ؟ قال : أنت حدثتنا عن فلان بكذا ، قال الاعمش : أنتم يا معشر الفقهاء الأطباء، ونحن الصيادلة "[5]، و يعدّه العلماء الحفاظ من أئمة أهل الحديث ، يقول أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني : " رحم الله مالكا كان إماما ، رحم الله الشافعي كان إماما ، رحم الله أبا حنيفة كان إماما "[6]، وحينما يبحث الإمام الحافظ ابن قيم الجوزية عن المنهج الصحيح لرد السنن ، يكتب اسمه في زمرة أئمة الحديث: "وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري ......"[7]، ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في كلامه حول تنزيه الله عن التجسيم : "... أئمة أهل الحديث والتفسير والتصوف والفقه مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم"[8].

وهناك شهادات ثابتة مستفيضة على لسان العلماء العباقرة في اهتمام الإمام أبي حنيفة رحمه الله بالأحاديث النبوية، وسعة نظره فيها، وتصلبه في اتباعها، يقول سفيان الثوري: " كان أبو حنيفة شديد الأخذ للعلم ذابا عن حرم الله أن تستحل، يأخذ بما صح عنده من الأحاديث التي كان يحملها الثقات وبالآخر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أدرك عليه علماء الكوفة ".[9]

وحكم بن هشام يخبر عن مدى اتباعه السنة: " كان أبو حنيفة لا يرد حديثا ثبت عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ".[10]

وحسن بن صالح يشهد له بالفضل فيقول: " كان النعمان بن ثابت فهما عالما متثبتا في علمه، إذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعده إلى غيره ".[11]

وأحمد بن يونس يروي عن أبيه أنه يقول: "كان أبو حنيفة شديد الاتباع للأحاديث الصحاح."[12]

وأصاب نضر بن محمد المروزي حينما قال: "لم أر رجلا ألزم للأثر من أبي حنيفة".[13]

لم يقصر الإمام أبو حنيفة على جمع الروايات وحفظها ، بل خاض في الجرح والتعديل حماية وذبا عن حوزة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحفاظا من الوضع والتحريف في أحاديثه ، ودليلا على ذلك أسرد بعض تنبيهاته القيمة ، منها قوله : " ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء بن أبي رباح ، ولا لقيت أكذب من جابر الجعفي ، ما أتيته قط بشيء إلا جاءني فيه بحديث ، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث من رأيي عن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق بها "[14]، ولا سيما مع انتشار الموضوعات في عصره فقد ألم بها وجمعها وكان يخبر بها طلابه عندما يجلس في حلقات العلم حتى يتركوا الاحتجاج بها ، فعن عبد الرحمن المقريء قال : " كان أبو حنيفة يحدثنا فاذا فرغ من الحديث قال : هذا الذي سمعتم كله ريح وباطل ".[15]

يبين العلامة زاهد الكوثري حقيقة تخصيص الحنفية بلقب أصحاب الرأي: "وأما تخصيص الحنفية بهذا الاسم، فلا يصح إلا بمعنى البراعة البالغة في الاستنباط "، ويضيف قائلا: " ولا أنكر أن هناك أناسا من الرواة الصالحين، يخصون أبا حنيفة وأصحابه بالوقيعة من بين الفقهاء، وذلك حيث لا ينتبهون إلى العلل القادحة في الأخبار، التي تركها أبو حنيفة وأصحابه، فيظنون بهم أنهم تركوا الحديث إلى الرأي، وهذا النبز منهم لا يؤذي سوى أنفسهم ".[16] 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.



[1] الجرح والتعديل، ص: 31-32 ، ( مؤسسة الرسالة، بيروت )

[2] سير أعلام النبلاء : 6 / 392

[3] سير أعلام النبلاء : 6 / 396

[4] تاريخ بغداد : 15 / 472

[5] الثقات لابن حبان : 8 / 467

[6] جامع بيان العلم وفضله، لابن رجب الحنبلي، تحقيق: أبو الأشبال الزهيري، 2 / 1113 ، ( رقم صفحات المجلدين على تسلسل واحد )  ( الطبعة الأولى، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية )

[7] إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، 2 / 294 ( الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية )

[8] منهاج السنة : 2 / 56

[9] الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر القرطبي، ص:142 ( دار الكتب العلمية )

[10] الانتقاء : ص : 169

[11] الانتقاء : ص : 128

[12] كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، لعبد العزيز بن محمد البخاري، 1/17 ( دار الكتاب الإسلامي )

[13] الجواهر المضية في طبقات الحنفية، لمحي الدين عبد القادر الحنفي، 2/200-201 ( الناشر: مير محمد كتب خانه، كراتشي )

[14] سير أعلام النبلاء : 5 / 83 .

[15] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم : 8 / 450 ( الطبعة الأولى، دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد دكن، الهند )

[16] فقه أهل العراق وحديثهم، تحقيق: أ. د. محمد سالم أبو عاصي، ص: 20-22 ، ( دار البصائر، القاهرة )


: الأوسمة


المرفقات

التالي
مناعة الأمَّة في الحفاظ على الهويَّة (2)
السابق
"الأدب والأدباء في معركة فلسطين" ندوة حوارية ينظمها منتدى الريسوني بمشاركة نخبة من العلماء والأدباء

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع