البحث

التفاصيل

مناعة الأمَّة في الحفاظ على الهويَّة (2)

الرابط المختصر :

مناعة الأمَّة في الحفاظ على الهويَّة (2)

كتبه: موفَّق شيخ إبراهيم

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


          ***

اقرأ: مناعة الأمَّة في الحفاظ على الهويَّة (1)

          ***

لقد أدرك أعداؤنا أهمية هذا الجسم المناعيَّ، فأمسوا لا تكتحل لهم عين، ولا يرقأ لهم جفنٌ، حتى شرعوا ووفق دراسةٍ ممنهجةٍ وتخطيطٍ، لم يعدْ خافياً على أحد، بغية النيل من كيانه وفاعليته؛ ومنه ما ورد في وثيقةٍ محفوظةٍ في دار الوثائق القومية في "باريس"، وهي عبارةٌ عن رسالةٍ كان قد أرسلها "لويس التاسع" ملك "فرنسا"، عندما أُسِرَ في دار "ابن لقمان" بــ"المنصورة" في "مصر"، خلال فترة الحروب الصليبية؛ حيث يقول في هذه الرسالة:

"إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال حربٍ، وإنما يمكن الانتصار عليهم بواسطة السياسة؛ باتباع الآتي:

أ- إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين، وإذا حدثت فليُعمَل على توسيع شقَّتها ما أمكن، حتى يكون هذا الخلاف عاملاً في إضعاف المسلمين.

ب- عدم تمكين البلاد الإسلامية والعربية، أن يقوم فيها حكم صالح.

ج- إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية، بالرشوة والفساد والنساء، حتى تنفصل القاعدة عن القمَّة.

د- الحيلولة دون قيام جيشٍ مؤمنٍ بحقِّ وطنه عليه، يضحِّي في سبيل مبادئه.

هـ- العمل على الحيلولة، دون قيام وحدةٍ عربيةٍ في المنطقة.

و- العمل على قيام دولةٍ غريبةٍ في المنطقة العربية، تمتدُّ ما بين غزَّة جنوباً وأنطاكية شمالاً، ثم تتجِّه شرقاً، وتمتدُّ حتى تصل إلى الغرب".

والقارئ للتاريخ المعاصر، يدرك إلى ما آل إليه الواقع الصعب، وإلى استباحة الصهاينة الماكرين ومن نهج نهجهم، لحرمات المسلمين، حتى أصبح لنا في كلِّ بلدٍ نائحةٌ وثكلى!

وليت الذين يعطون ولائهم لكلِّ قادمٍ ولكلِّ رافعٍ لرايةٍ! أن يأخذوا الدرس من فتاة حديثة السنِّ لم تتجاوز الحادية عشرة من عمرها؛ دُعيِت إلى بيت والدها الماركسيِّ الأحمر في قرية فلسطينيةٍ محتَّلةٍ منذ سنة 1948م، إلى الإفطار في رمضان، إذ هي مقيمةٌ في بيت عمِّها المسلم، وعندما دخلت بيت والدها، أبصرت صورة "لينين" معلَّقةً، فآلت على نفسها ألا تذوق طعاماً حتى تُنَّزل صورةُ "لينين"، وحاورها والدها وأصرَّت الفتاة وخرجت بعد المغرب في رمضان دون أن تذوق طعاماً! وثمَّة طلبة عرب يدرسون في "أميركا" قالوا ذات يومٍ: "ما عرفنا الإسلام إلا في أميركا! من خلال النماذج الإسلامية الذين ربتهم الدعوة الإسلامية مع أننا عشنا في "مكَّة" و"الرياض"، وما كان ذلك كذلك لولا الاعتزاز بالهويَّة!

قال شاعر الإسلام "محمَّد إقبال": "لقد هبّت عليَّ نفحة من نسيم السحر في الصباح الباكر وناجتني، وقالت لي: إنَّ الذي عرف نفسه وعرف قيمته ومركزه لا يليق به إلا عروش المجد"!

أجد من اللزام، أن أؤكد من جديدٍ، على ضرورة العمل من أجل إحياء فكرة إعادة الوظيفة الاجتماعية لمنهجنا القويم، بعد غيابها ردحاً طويلاً من الزمن، ممَّا اضطرنا إلى دفع ضريبةٍ قاسيةٍ هي ضريبة الذلِّ، ضريبة الدينونة لغير الله! والتي كان من آثارها ونتائجها، أنه لا يكاد يوجد فردٌ من آحاد الأمة المسلمة، إلا وفيه جرحٌ ينزف، ودمٌ يثعب، وشعبٌ يُهان، وحرماتٌ تنتَهك، وأراضٍ تغتصَب!

يتعين علينا نحن الذين عملوا جاهدين، على فهم المنهج الإسلامي فهماً صحيحاً، أن ندرك أن ثمَّة بهاءٌ للأمَّة مفقود على الدعاة أن يعيدوه إلى مجده الغابر؛ وأن نساهم في عملية استرداد الشخصية الإسلامية لمقوماتها، وتعزيز ثقتها بنفسها، والعمل على أن تأخذ من أصالتها بحظٍّ وافرٍ. وعلى أن نحميَ أجيالنا أن يكون إقبالهم على كلِّ وافدٍ ثقافيٍّ، إقبال حاطب ليلٍ لا يفرِّق بين عصا أو ثعبان!

رسالة الإسلام رسالة خالدةٌ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتعزيز الثقافة الإسلامية الراشدة، أساسٌ مهمٌّ في رسم المنهج السديد لحضارة الأمَّة، لأنها قلبها النابض وحصنها المنيع، الذي يحميها من زيف الحضارة الغربية.

هذا وقد شهدت البشرية كيف أن التنكُّب والتنكُّر لأصول الثقافة الإسلامية، أدى إلى إنهيار أكبر حصون المجتمع، مما حدا به إلى أن يعيش فترةً من الجمود والتعطيل، لكونه وقع بين خطرين اثنين، أحدهما حضارةٌ غربيةٌ مستوردةٌ، والآخر عاملٌ محليٌّ معطِّل، وفي حال استمرار الوضع على هذه الحال، فإن عملية النهوض بثقافة الأمَّة صعبةُ المنال.

إنَّ البحث عن الهوية، ومن ثَمَّ الحفاظ عليها هو أساس نفسيٌّ وواقعيٌّ وحتميٌّ وضروريٌّ، للاستقلال السياسيِّ والفكريِّ والاقتصاديِّ، للأمَّة المسلمة بعد زمنٍ طويلٍ من ذلِّ التبعية للآخرين.

قال الأستاذ الكبير "أبو الأعلى المودودي"، يصف جهود "محمَّد إقبال" (1877 - 1938م)، في مجال الإصلاح والتربية: "إن العمل العظيم الذي أدَّاه الدكتور "محمَّد إقبال" في مجال الإصلاح، له قيمة كبرى لا ينساها التاريخ الإسلاميُّ، والعمل المهم الذي أنجزه "محمد إقبال"، هو أنه أعلن حرباً لا هوادة فيها ضدَّ الغرب وحضارته المادية، فقد كان الرجل الوحيد في عصره، الذي لا يدانيه أحد في تعمُّقه في فلسفة الغرب ومعرفته بحضارته وحياته، فلما نهض يفنِّد فلسفته وأفكاره المادية، بدأ يذوب سحر الحضارة الغربية؛ الذي كان يذيب القلوب ويستولي على النفوس!"[1].

كما تجدر الإشارة إلى أننا نشهد اليوم حرباً ضروساً وصراعاً عنيفاً بين هوية هذه الأمَّة - التي تكالبت عليها الأمم والأفكار والمذاهب من كلِّ جانبٍ، كونها تمثِّل مبادئ استطاعت أن تجيب على أسئلة الإنسان والكون والحياة إجاباتٍ صائبةً - وبين الكمِّ الهائل من نقيضاتها موقف الندِّ للندِّ، وبدأت الأخيرة تتكسَّر على صخرة هذه الهوية العاتية، والتي امتزجت بمعين الوحي! ولم تخلو الساحة الأدبية من توصيفٍ لهذا الصراع المحتدم! الذي عبَّر عنه شاعرنا الملتزم، "عبد الله عيسى السلامة":

مهلاً فما عنَتِ الحياة لسادرٍ

 يختال بين شواطىء وضفاف

من لم يخُض لجَجَ الحياة فرأيُهُ

 زبدٌ على ثبَج المبادىء طاف

إنَّ الحياة سعير حـربٍ مُرَّةٌ 

 بين الهدى وشرائع الأحلاف

إلا أنَّه وعلى أرض الواقع، وبين يدي تحول عامَّة المسلمين من أمَّة مبادئ إلى أمَّة مصالح، أدَّى ذلك إلى فقدان هذا الكنز؛ الذي لا يُقدَّر بثمن!   

ومن مظاهر فقدان الهوية أن يلهث آحاد الأمَّة خلف السراب! وقريب منَّهم الينبوع الصافي الذي لم تتكدَّر دلاؤه، ولن تتكدَّر لأنَّه رباني الصبغة؛ ألا وهو الوحي بجناحيه: الكتاب والسنَّة، يحلِّق في آفاق النفس البشرية السويَّة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.



[1] مجلَّة البعث الإسلاميِّ، العدد الرابع، المجلَّد السادس عشر شوال، 1391هـ.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
الفوضى الخلّاقة الشاملة: مشروع صهيوني لتحقيق الهيمنة
السابق
كارثة علمية ألمت بالحنفية

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع