أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وإقرار مبدأ العدل والمساواة بين
الناس (2)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
* اقرأ: أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وإقرار مبدأ العدل والمساواة بين الناس (1)
إنَّ الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسيةٌ، الحاكم
والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام
الفوارق بين الناس بسبب الجنس، أو اللون، أو النَّسب، أو الطَّبقة، والحكام
والمحكومون كلُّهم في نظر الشرع سواءٌ (هاني، ص 411)، وجاءت ممارسة الصِّدِّيق
لهذا المبدأ خير شاهدٍ على ذلك. حيث يقول: ولِّيت عليكم، ولستُ بخيركم، فإن أحسنت
فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني، القويُّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى اخذ الحقَّ منه،
والضعيفُ فيكم قويُّ عندي حتى اخذ له حقَّه (الصلابي، ص 460-461).
وكان رضي الله عنه ينفق من بيت مال المسلمين، فيعطي كلَّ
ما فيه سواسيةً بين الناس، فقد روى ابن سعد، وغيره: أنَّ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه
ـ كان له بيت مال بالسُّنْح معروفٌ، ليس يحرسه أحدٌ، فقيل له: ألا تجعل على بيت
المال مَنْ يحرسه؟ فقال: لا يخاف عليه، قيل له: ولم؟ قال: عليه قفل! وكان يعطي ما
فيه حتى لا يُبقي فيه شيئاً، فلمّا تحوَّل إلى المدينة حوَّله معه، فجعله في الدار
التي كان فيها، وقدم عليه مالٌ من معدن من معادن جُهينة، فكان كثيراً، وانفتح معدن
بني سُليمٍ في خلافته، فقدم عليه منه بصدقةٍ، فكان يضع ذلك في بيت المال، فيقسمه
بين الناس سويّاً، بين الحرِّ والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير على
السَّواء . قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: فأعطى أول عام الحرَّ عشرة، والمملوك
عشرةً، وأعطى المرأة عشرةً، وأمتها عشرةً، ثمَّ قسم في العام الثاني، فأعطاهم
عشرين عشرين، فجاء ناسٌ من المسلمين، فقالوا: يا خليفة رسول الله! إنَّك قسمت هذا
المال، فسوَّيت بين الناس، ومن الناس أناسٌ لهم فضلٌ، وسوابقُ، وقدمٌ، فلم فضَّلت
أهل السَّوابق، والقدم، والفضل. فقال: أما ما ذكرتم من السَّوابق، والقدم، والفضل،
فما أعرفني بذلك، وإنَّما ذلك شيءٌ ثوابه على الله جلَّ ثناؤه، وهذا معاشٌ،
فالأسوة فيه خيرٌ من الأثَرة (ابن كثير، ص 6/305).
فقد كان توزيع العطاء في خلافته على التَّسوية بين
الناس، وقد ناظر الفاروق عمر أبا بكر في ذلك، فقال: أتسوي بين من هاجر الهجرتين،
وصلَّى إلى القبلتين، وبين من أسلم عام الفتح؟ فقال أبو بكر: إنَّما عملوا لله،
وإنَّما أجورهم على الله، وإنَّما الدُّنيا بلاغٌ للرَّاكب.
ورغم أنَّ عمر رضي الله عنه غيَّر في طريقة التوزيع،
فجعل التَّفضيل بالسابقة إلى الإسلام والجهاد، إلا أنه في نهاية خلافته قال: لو
استقبلتُ من أمري ما استدبرت، لرجعت إلى طريقة أبي بكرٍ، فسوَّيتُ بين الناس
(الطنطاوي، ص 187-188) (طبقات ابن سعد، ص 3/193).
وكان يشتري الإبل، والخيل، والسِّلاح، فيحمل في سبيل
الله، واشترى عاماً قطائف (القطيفة: كساء مخمل) أتى بها من البادية، ففرَّقها في
أرامل أهل المدينة في الشتاء، وقد بلغ المال الذي ورد على أبي بكرٍ في خلافته مئتي
ألفٍ وُزِّعت في أبواب الخير (الماوردي، ص 201).
لقد اتَّبع أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ المنهج الربَّاني
في إقرار العدل، وتحقيق المساواة بين الناس، وراعى حقوق الضُّعفاء، فرأى أن يضع
نفسه في كفة هؤلاء الواهنة أصواتهم، فيتبعهم بسمعٍ مرهفٍ، وبصرٍ حادٍّ، وإرادة
واعيةٍ، لا تستذلها عوامل القوَّة الأرضيَّة، فتملي كلمتها.. إنَّه الإسلام في فقه
رجلِ دولته، النَّابه الذي قام يضع القهر تحت أقدام قومه، ويرفع بالعدل رؤوسهم،
فيؤمِّن به كيان دولته، ويحفظ لها دورها في حراسة الملَّة، والأمَّة (هاني، ص 258).
لقد قام الصِّدِّيق منذ أول لحظة بتطبيق هذه المبادئ
السامية، فقد كان يدرك أنَّ العدل عزٌّ للحاكم والمحكوم، ولهذا وضع الصِّدِّيق
سياسته تلك موضع التنفيذ، وهو يردِّد قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ*﴾ [النحل: 90].
كان أبو بكر يريد أن يطمئن المسلمون إلى دينهم،
وحرِّيَّة الدَّعوة إليه، وإنما تتمُّ الطمأنينة للمسلمين ما قام الحاكم فيهم على
أساسٍ من العدل المجرَّد عن الهوى.
والحكم على هذا الأساس يقتضي الحاكم أن يسمو فوق كل
اعتبارٍ شخصيٍّ، وأن يكون العدل والرَّحمة مجتمعين، وقد كانت نظرية أبي بكرٍ في
تولِّي أمور الدولة قائمة على إنكار الذَّات، والتَّجرُّدِ لله تجرُّداً مطلقاً،
جعله يشعر بضعف الضعيف، وحاجة المجتمع، ويسمو بعدله على كلِّ هوىً، وينسى في سبيل
ذلك نفسه، وأبناءه، وأهله، ثمَّ يتتبَّع أمور الدَّولة جليلها، ودقيقها بكلِّ ما
اتاه اللهُ من يقظةٍ، وحذر (حمدي، ص 46).
وبناء على ما سبق يرفع العدل لواءه بين الناس، فالضعيف
امنٌ على حقِّه، وكلُّه يقينٌ أنَّ ضعفه يزول حينما يحكم العدل، فهو به قويٌّ لا
يمنع حقه، ولا يضيع، والقويُّ حين يَظلم يردعه الحقُّ، وينتصف منه للمظلوم، فلا
يحتمي بجاهٍ، أو سلطانٍ، أو قرابةٍ لذي سطوةٍ، أو مكانةٍ، وذلك هو العزُّ
الشَّامخ، والتَّمكين الكاملُ في الأرض (هيكل باشا، ص 224).
وما أجمل ما قاله ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ: إنَّ الله
ينصر الدَّولة العادلة؛ وإن كانت كافرةً، ولا ينصر الدَّولة الظالمة، ولو كانت
مسلمةً، ... بالعدل تُستصلح الرِّجال، وتُستغزر الأموال (هاني، ص 246).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1.
هاني، يسري محمد، تاريخ الدَّعوة إِلى الإِسلام
في عهد الخلفاء الرَّاشدين، الطَّبعة الأولى 1418هـ جامعة أمِّ القرى، معهد البحوث
العلميَّة، وإِحياء التراث.
2.
الصلابي، علي محمد، (2001)، فقه التَّمكين
في القرآن الكريم، دار الوفاء، المنصورة، الطَّبعة الأولى 1421هـ 2001م.
3.
ابن كثير، الحافظ الدمشقي، البداية والنِّهاية،
دار الرَّيَّان، القاهرة، الطَّبعة الأولى 1408هـ 1988م.