معالم القيادة النسائية في
الهجرة النبوية
بقلم: د. توفيق زبادي
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
تُعدُّ الهجرة النبوية المباركة
من مكة إلى المدينة حدثًا محوريًا في تاريخ الإسلام، شكّلت فيه المعاني الإيمانية
أسمى صور التضحية والبذل والثبات، وبرزت فيه النماذج الخالدة للرجال والنساء على
حد سواء، ممن بذلوا الغالي والنفيس في سبيل نصرة الدين ورفعة الدعوة.
ولقد شارك في الهجرة النبوية كمشروع حضاري
شامل، كل مكوّن من مكوّنات المجتمع المسلم، وكانت المرأة المؤمنة في قلب الفعل
الحضاري؛ تشارك في صناعة الحدث، وتدفع ضريبته، وتحمي مساره، وتؤسس لأثره البعيد.
التربية
النبوية للمرأة المهاجرة:
كان دور المرأة في الهجرة النبوية ثمرة تربية
إيمانية مكثفة في دار الأرقم، ومجالس الصحابيات الأُوَل، التي فيها نضج الإيمان،
وتشكل الوعي، واشتد العزم على البذل؛ فربّى النبي ﷺ الجيل النسائي على مفاهيم
الهجرة القلبية قبل البدنية، والولاء للعقيدة فوق كل اعتبار، ونشأ في ظل هذه
التربية فتيات كأسماء بنت أبي بكر، وأم كلثوم بنت عقبة، ونساء كأم سلمة وعائشة رضي
الله عنهن، ممن قدّمن نماذج فريدة في التضحية والثبات والإيجابية، وهذا ما مهَّد
للمرأة أن تكون جزءًا رئيسيًا من ملحمة الهجرة، أصالةً، ومبادرةً، ومشاركةً.
دور
الفتيات في الهجرة النبوية:
قد يتبادر إلى الذهن أن الفتيات، بما يحملنه
من رقة وعاطفة وحداثة سن، لَسْنَّ أهلاً لخوض المواقف العظيمة التي تتطلب حزمًا
وخطرًا وتخطيطًا. لكن الهجرة النبوية جاءت لتكسر هذه النظرة، ولتقدّم فتيات في عمر
الزهور جسَّدن أسمى صور الشجاعة والوفاء، وكنّ جزءًا لا يتجزأ من ملحمة الهجرة، بل
في بعض المواقف كنّ هنّ النواة الصلبة التي حملت سر النبي ﷺ ونصرته.
أولًا: أسماء بنت أبي بكر – ذات النطاقين:
1- موقعها في الحدث:
كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما فتاةً
شابة في مقتبل العمر، مخطوبة للزبير بن العوام، ولمّا تُزف بعد، ومع ذلك، كانت من
أوائل من عرف بمخطط الهجرة، وشاركت فيه بفاعلية بالغة.
2-
أدوارها
في الهجرة
·
نقل
الطعام والشراب إلى الغار:
كانت تصعد إلى غار ثور في ظلام الليل، بين الجبال الوعرة، حاملة
الزاد للنبي ﷺ وأبيها، مُعَرِضَة نفسها للتتبع والمخاطر.
·
حماية
السر النبوي:
حين داهمها أبو جهل يسأل عن والدها والنبي ﷺ، لم تفصح، وأظهرت
من الحزم والصبر ما يدل على نضج إيماني فذٍّ.
·
الذكاء
وسرعة البديهة:
حين لم تجد ما تربط به الزاد، شقّت نطاقها نصفين؛ فربطت به
الزاد وسُمّيت بـ"ذات النطاقين"، فكان ذلك رمزًا للتضحية والبذل.
3- دلالات مشاركتها
قدّمت نموذج الفتاة المسلمة الشجاعة، الصادقة،
المبادرة، المؤتمنة على الدين وأهله.
ثانيًا: أم كلثوم بنت عقبة – أول مهاجرة بعد
صلح الحديبية:
1- قصتها مع الهجرة:
·
أسلمت أم
كلثوم في مكة، وكانت من أول من هاجر بعد صلح الحديبية، بعد أن منعت بنود الصلح
المهاجرين من الرجال من اللجوء إلى المدينة، هاجرت وحدها، غير آبهة بالمخاطر،
ووصلت إلى المدينة، ورفض النبي ﷺ إرجاعها إلى أهلها رغم طلبهم؛ لأنها لم تكن
مشمولة ببنود الصلح التي لم تذكر النساء.
2-
مكانتها
في الحدث:
نزل في شأنها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ
لَهُنَّ} [الممتحنة:10].
ومن لطائف الآية:
العدول عن تأنيث الفعل (حاء) إلى التدكير:
قال
اللغويون: كل ما كان مؤنثًا تأنيثًا مجازيًا يجور في فعله التدكير والتأنيث.
إن تلك
المؤمنات الصادقات لما هاجرن في سبيل الله، قد قمن بعمل عظيم، وجهاد أصيل، وتحملن
في سبيل ذلك مشقة بالغة، وأذى شديداً، وهذه الأعمال من مهام الرجال؛ لأنها تتفق مع
طبيعتهم وتكوينهم، أما النساء فإنهن -غالبًا- يؤثرون الراحة والدعة، ويتجنبن
المشقة والتعب.
أما
المؤمنات المهاجرات فقد خالفن هذا، وفضلن المشقة والتعب والنصب. وقمن بالهجرة
والجهاد، واقتحمن الخطر والهول، وصبرن على الألم والجهد. والمعاناة؛ انتصارًا
لدينهن، وتحقيقًا لإيمانهن، وطلبًا لمرضاة ربهن.
3- دلالات قصتها:
·
شجاعة فردية،
وترسيخ لمكانة المرأة كمصدر لاتخاذ المبادرة العقدية والجهادية بنفسها.
·
بيّنت أن
الهجرة ليست حكراً على الرجال، بل سلوك عقدي متاح لكل مكلّف.
فتيات الأنصار – الاستقبال والترحيب
الاستقبال الوجداني للنبي ﷺ
حين دخل النبي ﷺ المدينة، خرجت النساء
والفتيات ينشدن:"طلع
البدر علينا..."، في
مشهد احتفالي مشحون بالعاطفة والولاء، وشاركن في نسج النسيج الاجتماعي الجديد بروح
المودة والاحتفاء والدعم.
دلالات مشاركة الفتيات في
الهجرة
·
نموذج
للبنات المسلمات في كل عصر:
·
الفتاة
المسلمة ليست عاجزة ولا هامشية، بل قادرة على حمل همّ الدعوة، والقيام بأدوار
عظيمة.
·
إثبات
لوعي الفتيات في الإسلام:
·
لم تكن
مشاركتهن عاطفية فحسب، بل عقلانية وشجاعة، وتحمل تبعات.
·
إبراز
الدور المجتمعي للفتيات في محطات التغيير:
·
الهجرة
محطة انتقال حضاري، والفتيات كنّ جزءًا من هذا الانتقال.
دور النساء المتزوجات في الهجرة
النبوية
إن من خصائص المرأة المتزوجة أنها تتحمّل
مسؤوليات مضاعفة تتعلّق بالزوج، والبيت، ورعاية الأبناء، إلا أن الهجرة النبوية
أظهرت أن هذه المسؤوليات لم تمنع النساء المؤمنات من أن يكنَّ شريكات حقيقيات في
حمل همّ الدعوة، والمشاركة الفاعلة في مراحل التحول الحضاري، والتضحية بكل ما
يملكن لأجل نصرة الإسلام.
لقد سجلت نساء متزوجات مواقف عظيمة في ملحمة
الهجرة، برز فيها الصبر، والفداء، والبصيرة، والثبات، بل كنّ – في مواضع – أكثر
جرأة ورباطة جأش من كثير من الرجال.
أولًا: السيدة خديجة بنت خويلد – الداعمة قبل
الهجرة:
1-
مكانتها
في الدعوة
·
أول من
آمن من النساء، وأول من صدق النبي ﷺ وشجعه وواسه.
2- وقفت بجانبه في بداية الوحي، وقالت له: «كَلَّا
وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا»().
3- دورها في التمهيد للهجرة
·
رغم أنها
لم تُدرك الهجرة؛ فقد كان دعمها النفسي والمادي ركيزة أساسية في استمرار الدعوة.
4- أنفقت مالها في سبيل الإسلام حتى قال النبي ﷺ: " «مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ
بِهَا خَيْرًا مِنْهَا: لَقَدْ آمَنَتْ بِي حِينَ كَفَرَ النَّاسُ، وَصَدَقَتْنِي
حِينَ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَأَشْرَكَتْنِي فِي مَالِهَا حِينَ حَرَمَنِي
النَّاسُ».
دلالة دورها
·
أثبتت أن
المرأة الزوجة قد تكون حجر الزاوية في ثبات الزوج على المبادئ.
·
كانت
مثالًا للزوجة المؤمنة الناصحة الصادقة، التي لا تنكسر في الشدائد.
ثانيًا: السيدة عائشة بنت أبي بكر – راوية
الحدث وفاعلة فيه:
1- مشاركتها المبكرة
·
كانت
شابة صغيرة، ومع ذلك شاركت في إعداد خطة الهجرة، وكانت مطلعة على تفاصيلها.
2- نقلها الدقيق لوقائع الهجرة
·
روايتها
عن مبيت علي، رضي الله عنه، وخروج النبي ﷺ، وحادث الغار، مثّلت توثيقًا دقيقًا
لأحداث لم يحضرها إلا القليل.
·
قولها: "كان النبي ﷺ يأتي إلى بيتنا كل
يوم سرًا..." – مما يدل
على ثقة النبي ﷺ بها وبدورها.
3- أثرها العلمي في توثيق الهجرة
·
كانت
المصدر الأول للكثير من تفاصيل الهجرة التي لم يعرفها الصحابة الآخرون.
·
هذا يبرز
دور الزوجة العالمة والراوية التي تحمل تراث الأمة.
أم سلمة بنت أبي أمية – الصابرة المجاهدة
1- قصتها المؤثرة
·
عندما
أرادت الهجرة، منعها أهلها وأخذوا ابنها، فبقيت وحيدة باكية عند الكعبة سنة كاملة.
·
بعد عام،
رقّ لها أحد أقاربها فأطلق سراحها، فهاجرت وحدها على بعيرها، ورافقها عثمان بن
طلحة.
2- قوة شخصيتها
·
امرأة
متزوجة، فقدت الزوج والولد مؤقتًا، لكنها لم تتراجع.
·
تحملت
مشقة السفر وحدها كدليل على عزمها وصدق هجرتها لله.
3- مكانتها بعد الهجرة
·
كانت من
النساء العاقلات اللواتي استشارهن النبي ﷺ كما في صلح الحديبية.
نساء الأنصار – المُستقبِلات والمُضَيِّفات
1- دورهن في المجتمع:
·
فتحن
بيوتهنّ للمهاجرات، وتقاسمن معهن الطعام والمسكن.
·
بعضهن
تزوجن من المهاجرين، كما في زواج النبي ﷺ من السيدة صفية، وزواج عبد الرحمن بن عوف.
2- البُعد التربوي في مشاركتهن
·
علّمن
أبناءهن محبة النبي ﷺ واحتفوا به.
·
حملن هم
الدعوة في بيوتهن، وصنعن بيئة حاضنة للمهاجرات.
دلالات دور النساء المتزوجات في
الهجرة
·
الزوجة
المسلمة ليست عائقًا في طريق الدعوة، بل شريكة فيها.
·
توازن
المرأة بين دورها الأسري والمجتمعي ممكن وواقعي.
·
أدوار
النساء كانت متنوعة: مادية، معنوية، معرفية، تنظيمية، استقبال، احتضان.
·
الهجرة
محطة كشفت عن معدن المرأة المسلمة حين يؤمن القلب وتصدق العزيمة.
القيادة النسائية في الهجرة
النبوية:
في الهجرة النبوية الشريفة ظهرت نماذج نسائية
تميّزت بقدرات قيادية فذّة، أثبتت من خلالها أن القيادة ليست حكرًا على الرجال،
وأن المرأة المسلمة قادرة على اتخاذ القرار الصائب، والتصرف بشجاعة في اللحظات
الفاصلة، والتأثير في محيطها بخطى واثقة وروح ملهمة.
أولًا: القيادة بالمبادرة – نموذج أسماء بنت
أبي بكر:
·
لم تنتظر
التوجيه المباشر، بل بادرت إلى توفير الزاد، وتحملت عبء التوصيل، وربطت الزاد
بنفسها، بشجاعة واستقلالية.
·
أحسنت
التصرف حين واجهت أبا جهل، وأظهرت رباطة جأش، فكانت قائدة في حفظ السر، وحلّ
المشكلات، والتدبير تحت الضغط.
الدلالة القيادية:
المبادرة السريعة، والتصرف في اللحظات الحساسة دون تردد، تدل
على قدرة على اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية.
ثانيًا: القيادة بالثبات – نموذج أم سلمة
·
حين
مُنعت من الهجرة وفُرق بينها وبين زوجها وولدها، صبرت، وثبتت، ولم تتنازل عن حقها
في الهجرة.
·
قررت بعد
عام أن تُهاجر وحدها، وواجهت المجهول برباطة جأش نادرة، متخطية الاعتبارات
الاجتماعية والقبلية.
الدلالة القيادية:
قدرة على اتخاذ القرار الفردي في الأزمات، والتمسك بالحق رغم
الوحدة، دليل على قوة داخلية وقيادة ذاتية مستقلة.
ثالثاً: القيادة بالوعي والإعلام – نموذج
عائشة بنت أبي بكر
·
كانت
صغيرة السن، لكنها أدركت أهمية التوثيق، فرَوَت أدقّ تفاصيل الهجرة بصوت واثق،
وحفظت الأمة من خلالها كنوزًا معرفية وتاريخية.
·
أسهمت
لاحقًا في تعليم النساء وتوجيه المجتمع، مما يدل على إدراكها لدور الكلمة والفهم
في قيادة الوعي الجماعي.
الدلالة القيادية:
قيادة فكرية مبكرة، واعية لدور الرواية والمعرفة في صناعة وعي
الأمة، خصوصًا في صفوف النساء.
رابعًا:القيادة بالدعم الاستراتيجي – نموذج
خديجة بنت خويلد
·
لم تكن
مشاركة في الحدث بجسدها، لكنها كانت صاحبة أثر أعمق، حين احتضنت النبي ﷺ في بدايات
الوحي، وثبّتته نفسيًا، ودعمته ماليًا.
·
كانت أول
من آمن، وأول من وظف المال والأسرة لخدمة الرسالة.
الدلالة القيادية:
الرؤية العميقة، واستثمار الموارد (المال، النفس، البيت) في دعم
المشروع، مما يدل على قيادة استراتيجية من خلف الصفوف.
خامسًا: القيادة المجتمعية – نساء الأنصار
·
فتحن
بيوتهن للمهاجرات، وأوجدن مناخًا من التآلف والدعم والتكافل.
·
شاركن في
نشر الدعوة، وبناء المجتمع المدني الجديد.
الدلالة القيادية:
القدرة على التأثير في المحيط الاجتماعي، وصياغة النسيج
المجتمعي على أسس إيمانية متينة.
السمات القيادية للمرأة المهاجرة
بيانها
|
السمة
|
|
القدرة
على خوض المواقف الخطرة دون خوف، كما فعلت أسماء وأم سلمة.
|
الشجاعة
|
|
إدراك
عائشة لطبيعة المرحلة، وحفظها للتفاصيل، ونقلها للرواية.
|
الوعي
|
|
تصرف
أسماء دون انتظار، وربط الزاد بنفسها، والهجرة الفردية لأم كلثوم.
|
المبادرة
|
|
تقديم
الدين على الأعراف، وتجاوز التقاليد من أجل نصرة الإسلام.
|
الولاء العقائدي
|
|
التكيف
مع ظروف صعبة، والثبات أمام الضغوط الاجتماعية والقبلية.
|
المرونة والثبات
|
|
فالمرأة المسلمة كانت قائدة في مواقع مختلفة:
من التخطيط والتنفيذ، إلى التوثيق والتأريخ، إلى الدعم النفسي والاجتماعي. وقدّمت
نماذج حيّة في القيادة النسائية الرسالية، مما يؤكد أن بناء النهضة لا يتم إلا
بشراكة متكاملة بين الرجل والمرأة.
كل
مراحل العمل الإسلامي تحتاج لجهود المرأة المؤمنة:
·
في المرحلة
السرية للدعوة كانت خديجة رضي الله عنها حاضنة معنوية ومالية.
·
في مرحلة
التحول والهجرة كانت أسماء وعائشة وأم سلمة فاعلات مشاركات.
·
في مرحلة
التأسيس المدني كانت نساء الأنصار جزءًا من البناء المجتمعي.
خاتمة:
لقد أظهرت الهجرة أن المرأةَ المسلمة قادرةُ
على أن تكون صاحبة دور قيادي، ومبادرة واعية، وركنًا ثابتًا في مسيرة التغيير؛ إذا
نشأت في بيئة إيمانية تربوية تزرع فيها معاني العقيدة والرسالة. ولم يكن دور
النساء في الهجرة هامشيًا، بل كان جزءًا لا يتجزأ من صناعة الحدث، في التخطيط والتنفيذ،
في التضحية والصبر، في بناء المجتمع وتوثيق الذاكرة.
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه
أنيب.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي
كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.