المسلمون من البعثة إلى الهجرة:
"من الفرد المكون للأمة إلى الأمة المكونة للحضارة"
بقلم: د. عبد الحق ميحي
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرف البشرية ببعثة خير البرية محمد بن
عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، نعمة الله على البشرية في وقت اصطلمت فيه الفتن،
وشاع الكفر، وأطبق الضلال على الأرض، حتى لم يبق شبر من الأرض إلا وطالته الجاهلية
والفساد والظلم والطغيان والتهارج، ولهذا قال الحق تبارك وتعالى: ﴿... قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ
مُّبِينٌ﴾ [سورة المائدة: 15].
فالنور هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، والكتاب المبين هو القرآن الكريم عند
جماهير المفسرين، الذي أزاح الله به ظلمات الجهل والكفر وتربية الإنسان، وتكون
الفرد المسلم حاملاً لواء الحق والعدل، جيل الصحابة -رضي الله عنهم- هذا الجيل
الرباني الذي ورث المنهج عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خير ميراث فورثوه لمن
بعدهم من التابعين، وظل المسلمون يتوارثون هذا المنهج القويم في بناء الإنسان، حتى
وصلنا كما هو عذب زلال لا غبش ولا زيغ، مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا
مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾
[الجمعة: 2].
ولقد اعتمد النبي -صلى الله عليه وسلم- في التربية
للإنسان على المحضن، فكانت دار الأرقم ظرف مكان تلك المحاضن، كما اعتمد المنهج،
فكان القرآن المكي بخصائصه ومميزاته وأساليبه التشويقية وقصصه لتاريخ الأمم
والشعوب، وتدافع الخير والشر، والإيمان والكفر، بمختلف الأبعاد الزمانية والمكانية
لحركة التاريخ البشري، ثم السنة النبوية الشريفة والتي تكون دائما خادمة للقرآن
الكريم.
من هذا المنطلق تشكلت الجماعة المسلمة على أساس عقدي
متين، ورباط أخوي صلب، وأرمادة أخلاقية قوية، سمت بذاك الإنسان الجاهلي عابد
الأوثان ومتعاطي المنكرات، وسافك الدماء، وقالت المهج والأرواح إلى العلياء،
فانقلب إلى إنسان صالح مصلح، مستأمن على العرض والمال والمهج والأرواح، ينطلق في
تعاطيه مع الله من منطق العبودية، ومع باقي مكونات الكون أنه المستخلف في الأرض
المكلف بالإصلاح والمنهي عن الإفساد: ﴿وَلَا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا..﴾ [سورة الأعراف: 56].
لأنه قد رسخ في ذهنه ما أخبرهم به سيد الخلق -صلى الله
عليه وسلم- أنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم حملة هداية ونور للبشرية، وبذلك يكون
الإنسان المكون للأمة، فلما استوفوا شروط الاستخلاف في أنفسهم، واستكملوا عناصر
تكوين الأمة في واقعهم بعد سلسلة امتحانات ومحن صقلتهم، ونفت عنهم الخبث، وعلم
الله تعالى فيهم، ومنهم القدرة على الاستخلاف، وتّحَمل تكليف مفهوم الأمة، أذن
الله لنبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلى يثرب التي أصبحت المدينة
المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم، لتعلن للبشرية الانتقال من مفهوم
البناء الفردي للإنسان إلى مفهوم بناء الأمة الحضاري، بالهجرة إلى المدينة المنورة
على ساكنها صلوات الله وسلامه عليه انطلق مفهوم بناء الأمة، حيث نزل قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ ...﴾ [البقرة: 143].. وهذه الآية بإجماع العلماء مدنية،
أي نزلت بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما أنّ الله تعالى زكى هذه الأمة
وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وكان هذا الإخبار من الله في المدينة المنورة ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ ..﴾ [آل عمران: 110].
ولهذا كانت الهجرة النبوية بداية ميلاد أمة مكلفة
بالشهادة على الأمم، ولن تكون كذلك إلا إذا استوفت شروط الشهود الحضاري، ومن باب
-ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب- فواجب على الأمة أن تظل حريصة على تحصيل أسباب
الشهود الحضاري والأخذ بأسباب النهوض والإقلاع، ولكن هناك سؤالاً يُطرح هل الأمة
كانت وما زالت عند مستوى هذا الشرف والتكليف الإلهي على مر الحقبة التاريخية؟
ونقول جوابا على هذا السؤال: قطعا لا فلقد تخلفت الأمة
عن الشهود الحضاري، وعاشت أتعس اللحظات وأحلك الظروف، وتمكن منها أعداؤها في حقب
تاريخية متقطعة مختلفة، مما حدا ببعض فقهائها كالإمام الجويني في كتابه الغياثي
يفترض فتور الشريعة وإندراس معالمها وذهاب رسومها، وبعض مؤرخيها وخاصة أولئك الذي
عاصروا الغزو المغولي لحاضرة الخلافة العباسية، فأبوا أن يؤرخوا لأهوال الحوادث
التي شاهدوها باعتبار ألا يوجد من يقرأ بعدها فهي علامات قيام الساعة.
فلا شك في أن الأمة مرت بلحظات فتور، وسقوط وتمزق وتشتت،
واضمحلال وأفول نجم، ومغيب شمس حضارة في الشرق والغرب على امتداد وجود الأمة، عربا
وعجما. ولعل ما شهدته الدول الإسلامية قبل قرنين من الزمان كان إحدى محطات الضعف
والأفول، من خلال الاستعمار الغربي بكل جنسياته وصوره وآلياته، والتي لا تزال بعض
إفرازاته ممتدة إلى زمننا هذا فقضيتنا المركزية الأساسية "قضية فلسطين،
والصراع الإسلامي الصهيوأمريكي -وإن شئت قلت الصهيوغربي-" والتي ظل الاستعمار
الغربي يحشد لها، ويستنفر لها الدعم المادي والمعنوي والعسكري في جميع مراحل التأسيس
والتكوين، بل وظل الدعم الغربي والأمريكي متواصلا وصولا إلى حد اتفاقيات التطبيع
(اتفاقيات إبرهام) مع المنظومة العربية
والإسلامية، ويحدوهم الأمل والذي نرجو الله أن يقطعه طوفان الأقصى وصبر وصمود
المقاومة وداعميها من الشعوب المسلمة وأحرار العالم، أن تتماهى الشعوب المسلمة من
طنجة إلى جاكرتا، ومن المحيط إلى الخليج مع الكيان الصهيوني والقبول به والتعاطي
معه إيجابا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، حتى تطمس معالم القضية الجوهرية
والمحورية، وتندرس مسألة فلسطين، وتمحى من مخيال الأمة، وتنسى كما نسيت الأندلس يوما
وتيمور الشرقية وجنوب السودان.
ولكن في تصوري البسيط أن هناك مسألتين لا يمكن أن تدرس
معالمها، أو تطوى مسيرتها، أو تنطفئ جذوتها في نفوس المسلمين نتوسع في الأولى،
ونرجئ الثانية لحلقة أخرى إن شاء الله تعالى.
الأولى: مفهوم الأمة المسلمة مهما أصابها من ضعف وذبول
وغياب عن المشهد الحضاري، فإنها لا تموت ولا تزول للأسباب التالية:
أولا: إن قضية الأمة قضية كلية عقدية
ربطت بعالم الشهادة والخيرية وما جعلها الله خير أمة أخرجت للناس إلا لأنها تحمل
عوامل بقائها في طياتها مهما كانت الظروف والغوائل.
ثانيا: أمة تحمل قيم بقائها في ذاتها:
فلئن كان الأفراد مصيرهم الزوال والفناء، وهذه سنة الله في الخلق (كل نفس ذائقة الموت) فالأمة بآحادها تفنى
وينتهي وجودهم من هذه الدنيا، وهذه مسلمة لا تحتاج إلى دليل، وأما الأمة بمجموعها
وككيان وحضارة، فقد كُتب لها الاستمرار والبقاء حتى يأذن الله تعالى بقيام الساعة،
فلا يتصور زوال أمة رسالتها الشهادة على الأمم، سواء من موقع الاستخلاف، أو من
موقع الاستضعاف، ولقد أدت الأمة المسلمة هذا الدور من الموقعين الآن في الذكر
وحركة التاريخ تشهد على ذلك من خلال وقائع وحوادث عدة.
ثالثا: القيم الحضارية التي تحملها
الأمة انتقلت بها من الفرد إلى المؤسسة، ومن الحالة الشخصية إلى النظام والمنظومة،
فالأمة بعد الهجرة النبوية أصبحت تعيش نظما تشريعية في مجال الاقتصاد والمال
والمجتمع والسياسة -حالة الأمة الدولة والمجتمع- ينتظم فيها عقد الفقه الدستوري في
حفظ حقوق الأفراد والدولة على حد سواء في إطار الفصل بين السلطات ينتظم عقدها مع
القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني ـ حالة السلم والحرب .. كل ذلك
محكوم بعقيدة إسلامية صحيحة، وعبادة خالصة لله تعالى ومنظومة أخلاقية متينة هكذا
كانت الهجرة النبوية منطلق بناء أمة، وتأسيس حضارة، وهكذا يجب أن نستلهم العبر
لاستئناف حياة حضارية رائدة.
وهذا ما كفل لها الاستمرار خمسة عشر قرنا من الزمن، ولا
تزال الأمة قائمة حتى ونحن نعيش هذه الظروف التعيسة من استلاب حضاري، وخنوع، بل
وتواطؤ النخب السياسية مع العدو، كما أننا متفائلون بمشاهدة نهوض وإقلاع حضاري
بدأت إرهاصاته تتبدى للعيان في إطار منظور سنني شامل تقتضيه سنة التدافع حينا وسنة
التداول حينا آخر ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.