البحث

التفاصيل

صحبة المؤمنين وإكرامهم

الرابط المختصر :

صحبة المؤمنين وإكرامهم

بقلم: بن سالم باهشام

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

إكرام المؤمنين بعد صحبتهم الخالصة ركيزة من الركائز التي لا يمكن تجاوزها في طريق السلوك الإيماني | (سلسلة خطبة الجمعة)

عباد الله، قال تعالى في سورة الحجرات: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، وإثبات الأخوّة الإيمانية في هذه الآية، تستوجب الإكرام والتقدير والتعاون، وقال تعالى في سورة الحشر: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9]، وثناء الله تعالى على من يقدّم إخوانه المؤمنين على نفسه في الحاجات والمصالح برهان على الإيمان، وروى البخاري ومسلم، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. [أخرجه البخاري (2/863، رقم 2314)، ومسلم (4/1999، رقم 2585)]. وروى البخاري ومسلم، أن جَرِير بْن عَبْد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ لاَ يَرْحَمْهُ اللَّهُ) [أخرجه البخاري (6/2686، رقم 6941)، ومسلم (4/1809، رقم 2319)].

فهذه الآيات والأحاديث، تربط بين صحبة المؤمنين وإكرامهم، مع محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، عبر علاقة متداخلة، تجمع بين المحبة والطاعة والاحترام، فمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتي هي الشعبة الأولى من شعب الإيمان السبع والسبعين، هي أساس الإيمان، وهي التي تُترجم بالعمل بالطاعة، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى في سورة آل عمران: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31]، فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم، هو دليل المحبة الحقيقية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمحبة في الله بين المؤمنين؛ والتي هي الشعبة الثانية من شعب الإيمان، هي امتداد لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهي محبة خالصة لا تقوم على مصالح دنيوية، بل على الإيمان والتقوى، وهذا الحب الخالص، يدفع إلى صحبة المؤمنين وإكرامهم بالاحترام والتعاون، وهو تعبير عملي عن المحبة في الله، وهو من آثار محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتي تظهر في سلوك المؤمن، فالإكرام والرفق بالمؤمنين يعكس رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بهم، ويحقق قوله تعالى في سورة المؤمنون: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60]، أي أن المحبة والطاعة تتجسد في الإحسان إلى المؤمنين، كما أن الله يصف المحبين له، الذين يحبهم ويحبونه، بأنهم (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [المائدة: 54]، أي أنهم يظهرون الرحمة والإكرام بين بعضهم، وهذه دلالة على ارتباط المحبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بإكرام المؤمنين،

فهذه الآيات والأحاديث، تؤكد أن محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا تكتمل إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم. وإظهار المحبة في الله بين المؤمنين، وهذا يتجلى في صحبتهم وإكرامهم واحترامهم، فالإكرام هو علامة على المحبة الحقيقية التي تربط القلوب بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لهذا اعتبرت "صحبة المؤمنين وإكرامهم"، شعبة من شعب الإيمان، واستحقت أن تحتل المرتبة الثالثة من بين الشعب السبع والسبعين، بعد حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحب في الله. وصحبةُ المؤمنين وإكرامهم، تعني مرافقة المؤمنين، والتعامل معهم بالإحسان، وتبدأ هذه الصحبة الصالحة للمؤمنين، بالنية الصادقة، والقصد القلبي، لأن الأعمال بالنيات، والأخوة والمحبة بين المؤمنين، والتعاون بينهم، كما قال الله تعالى في سورة الحجرات: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، وبكف الأذى عنهم أولا، ثم تعظيمهم، وتربيتهم وتعبئتهم، وترتقي درجاتها حسب مراتب الدين من إسلام، إلى إيمان إلى إحسان، لهذا اعتبرت هذه الشعبة جزءا أساسيا من الإيمان، وركيزة من الركائز التي لا يمكن تجاوزها في طريق السلوك الإيماني، ورافداً وحلقة من حلقات استكمال الإيمان، فهي من أرقى مظاهر الإيمان العملي، وهي امتداد طبيعي لشعبة “الحب في الله“، حيث لا يكتمل حب العبد لله حتى يحب أولياءه ويكرمهم، ويكون معهم عطوفًا ورحيمًا وخادمًا ومساعدًا، وإكرام المؤمنين هو تعبير عملي عن محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأنهم أحباؤه وأولياؤه،

والقرآن يحث على الإحسان إليهم والتعاون على البر والتقوى، مما يعكس المحبة الحقيقية التي تربط القلوب بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والقرآن والسنة يربطان حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأفعال الإكرام عبر الطاعة والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تتجلى في حسن الصحبة وإكرام المؤمنين، فالإكرام هو دليل عملي على المحبة الحقيقية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، روى البخاري ومسلم، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ). [أخرجه البخاري (1/14، رقم 13)، ومسلم (1/67، رقم 45)].

عباد الله، إن إكرام المؤمنين يتحقق في مجالات كثيرة، تبدأ بدعوة المؤمنين للتوبة إلى الله تعالى، وهي الباب الأول لتنقية النفس وتحريك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإكرام يكون ماديا ومعنويا، وقولا وفعلا، فالمادي كالنفقة والصدقة والإطعام والضيافة، والإكرام المعنوي كالخدمة، والزيارة، والتفقد، والدعاء بظهر الغيب، والإكرام بالقول يكون بالتواضع في الخطاب، وحسن اللفظ، وترك الغيبة والنميمة. روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُوْنَ مِن لِّسَانِهِ وَيَدِهِ.) [أخرجه البخاري في صحيحه ج1/ص13 ح10، ومسلم (1/65 ، رقم 41)]، والإكرام بالفعل، يكون بقضاء الحوائج، ومشاركة الأفراح والأتراح، والعون في المصائب، روى مسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ اَلدُّنْيَا، نَفَّسَ اَللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اَللَّهُ عَلَيْهِ فِي اَلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ اَلْعَبْدِ مَا كَانَ اَلْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) [رواه مسلم (ح 2699)]، ويكون كذلك بإكرام كبار السن وأهل الفضل، وإجلال أهل العلم والصلاح، روى أحمد، والطبراني، والضياء، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، رضي الله عنه، أن رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لَيْسَ مِنْ أُمَّتِى مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ).[أخرجه أحمد (5/323، رقم 22807)، قال المنذري (1/64): إسناده حسن، والضياء من طريق الطبراني (8/361، رقم 445). قال الهيثمي (1/127): رواه أحمد والطبراني في الكبير، وإسناده حسن]. ومن الإيمان إكرام الضيف والمؤمن الزائر، روى البخاري ومسلم، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْم الْآخِر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْم الْآخِر فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْم الْآخِر فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وفي رِوَايَة زَكَرِيَّا: أَوْ لِيَسْكُتْ). [أَخْرَجَه البخاري، الرقاق، باب حفظ اللسان وقول النبي: من كان يُؤْمِنُ بِاللهِ :6476 أَخْرَجَه مسلم، الْإِيْمَان، باب الحث على إِكْرَام الجار والضَّيْف ولزوم الصمت:48]، وروى البخاري، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ) [رواه البخاري في صحيحه ج5/ص2139 ح5325)]، والعاني هو الأسير أو صاحب الدين أو المريض.

عباد الله، إن لشعبة صحبة المؤمنين وإكرامهم فوائد كثيرة، وآثار عظيمة فردية واجتماعية، إذ تجمع بين الخلاص الفردي والجماعي، وتدخل في إطار مشروع جهادي متكامل لبناء الذات والأمة، وتوطد المحبة، وتزيد التعلق بين المؤمنين، وترابط المجتمع وتماسكه، إذ تصبح العلاقات قائمة على المحبة والاحترام المتبادل، وتنشر الرحمة والتعاطف مما يخفف من حدة الخصومات والصراعات، وبها يتم نيل رضا الله وفضله، فإكرام أوليائه من أعظم القربات إليه، وبها يتم تحقيق الأمن الاجتماعي والنفسي، بحيث أن المؤمن يشعر بأنه في مجتمع يحبه ويكرمه ويحفظ كرامته.

عباد الله، إن شعبة “صحبة المؤمنين وإكرامهم” ليست شعبة ثانوية في الإيمان، بل هي مظهر صادق لرسوخ العقيدة في القلب، وامتداد فعلي لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. إنها تجسيد ملموس للإيمان، يُترجم إلى احترام، وخدمة، وتواضع، وتضحية، يقول عبد الله بن المبارك: رحمه الله: (رُبّ عمل صغير تُعظّمه النية، وربّ عمل كبير تُصغّره النية، وربّ إحسان إلى مؤمن، أحب إلى الله من مائة ركعة تطوعًا).

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون إلى يوم الدين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
تصاعد الإسلاموفوبيا في فرنسا: النساء المحجبات يواجهن عنفًا وتمييزًا متزايدًا في الأماكن العامة
السابق
الأمين العام للاتحاد يستقبل الناطق الإعلامي لهيئة علماء اليمن ويبحث مستجدات الأوضاع والتحديات الدعوية والعلمية

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع