البحث

التفاصيل

رسالة المسجد ودورنا في النهوض بها

الرابط المختصر :

رسالة المسجد ودورنا في النهوض بها

بقلم: زهرة سليمان أوشن

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

  إن أول مسجد وضع في الدنيا على وجه الكرة الأرضية، كان لعبادة الله تعالى ليذكر فيه اسمه، ولغايات أخرى سامية، هو بيت الله الحرام الذي قال فيه جل من قائل: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96- 97].

ولا شك أن للمساجد دورها المهم ومهمتها السامية في المجتمع، بل على عاتقها يقع أهم الأدوار في المجتمع، إنها مهمة بناء الساجد، وهي مهمة بالغة الأهمية، لأنها اللبنة الأولى والركيزة الأساسية لتقدم المجتمع الإسلامي والنهوض به.

والقرآن الكريم يشير إلى هذا الدور الكبير من طرف خفي لا يخفى عن أولى الألباب، ففي سورة النور يصف الله تعالى نفسه بقوله: (ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ) [النور: 35]، ثم يضرب مثلا رائعا لنور المؤمن الذي استحضر مقام الله تعالى في قلبه فيصفه بقوله: (مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ) [النور: 35]، فشبه قلب المؤمن في صفائه بالقنديل وعبر عن تجليات النور فيه بهذه الجمل المتدفقة بلاغة وبيانا، رقة وجمالا، ثم ذكر الله تعالى محل تلك القلوب الصافية وأماكن حضورها، فإذا بها بيوت الله ومساجده العامرة فقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ) [النور: 36]، ووصف الله تعالى مرتاديها بأنهم : (رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰر) [النور: 37]، في ميزان دقيق وإشارة عميقة تفصلهم عن النفاق وأهله، ومن تم يكون الجزاء من جنس العمل تكرما من الله وتفضلا: (لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ) [النور: 38].

إذن فالعلاقة بين المؤمن والله عز وجل تزداد قوة وتقاربا في المساجد التي هي أحب البقاع إليه سبحانه، تتجلى فيها رحماته وتتنزل تجليات نوره على مرتاديها والساجدين في رحابها.

فلا غرو أن يكون أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني دولته الإسلامية بعد هجرته إلى المدينة المنورة هو بناء مسجده الشريف هناك ليجعل منه منارة للعلم وإشعاعا للهدى، فيتخرج منه تلك الثلة المباركة من صحابته الكرام الذين حملوا لواء الحق ومشاعل الخير للبشرية جمعاء متمثلين قوله تعالى: (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ) [آل عمران: 110].

ولا عجب أن يجعل رسول الله ﷺ مقياس الإيمان كثرة ارتياد المساجد، ولا غرو أن يذكر في حديثه الشريف المعروف من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: ( رجل قلبه معلق بالمساجد)، ولقد فهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ومن تلاهم من التابعين الأهمية البالغة للمساجد، فكانوا يبنون المساجد في كل الأمصار التي يفتتحونها ويولونها كل عناية واهتمام، واستمر الاهتمام بالمساجد من مصلحي هذه الأمه جيلاً بعد جيل، يتعهدونها بناء ونظافة، ترميما واصلاحا، .وتزويدا بالعلماء والدعاة حتى يرتقى المسجد برسالته ويسهم في نهضة الأمة.

وحتى في أحلك الظروف التي مرت بها الأمة الإسلامية، كانت المساجد وما تزال هي الحصن القوي والسد المنيع في مواجهة حمالات التنصير والتغريب وأفكار التهويد، ومحاولات التشكيك في الدين الحنيف. ولقد زودت المساجد هذه الأمة عبر الأجيال بآلاف من العلماء والمصلحين، والقادة والفاتحين الذين ساهموا في بناء أمجاد الأمة وترسيخ دعائم الحضارة فيها.

ونحن في هذا الوقت الذي تواجه فيه أمتنا أشرس حمالات التنصير والتهويد وأعتى هجمات الاستعمار الفكري، وأعتى موجات الحرب على الهوية الإسلامية بكل الطرق، نحن لفي أمس الحاجة لأن نفهم رسالة المسجد، ونعي مضامينها، ونحاول تطبيقها في مساجدنا لتؤتي ثمارها -بإذن ربها - صلاحاً للأفراد وتقدما للمجتمع.

ولكي نعيد للمساجد دورها الفعال ورسالتها الخالدة، يجب علينا أن نراعي عدة أمور لعل أبرزها:

* الاهتمام بمرتادي المساجد والدارسين فيها تربية وتعليما حتى نخرج الساجد، نقي القلب، طاهر اللسان الذي تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، والذي يسير بنور القرآن في حياته متأسيًا بنبيه ﷺ، الذي وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها: {كان خلقه القرآن}.

* أن يكون القائمين على أمر المساجد والعاملين فيها قدوة حسنة لأفراد المجتمع داخل المسجد وخارجه، رافعين شعار شعيب عليه السلام:

(إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ) [هُود: 88].

* أن يكون كل أفراد المسجد متعاونين متآلفين متحابين يسعى كل فرد فيهم لمصلحة المسجد والمجتمع ويضحى من أجلها، وهم يدركون أن الفرد ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، وأن يد الله مع الجماعة، فتتحقق استجابتهم لقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ) [المائدة: 2].

* أن يحاول كل أفراد المسجد أن يجعلوا من مسجدهم مثالا مصغرة للمجتمع الإسلامي الذي يتخذ من القرآن الكريم والسنة النبوية منهجا له في الحياة، مجتمعا يناصح أفراده بعضهم بعضا، ويأتمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، تتجسد فيهم الآية الكريمة: (وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ)  [الآية: 71].

وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (الدين النصيحة).

* وهم قد يختلفون في آرائهم، لكن ذلك لا يفسد الود بينهم، بل يحققون قول الشافعي: (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)؛ فيعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه، ويتعاونون فيما اتفقوا فيه مدركين أن تلاقح الأفكار واختلاف الاتجاهات يثري ساحة المجتمع، ويفتح بابًا واسعا للتنافس الشريف، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون.

* وفي كل أعمالهم يصطحب أفراد المجتمع المسجد زادا عظيما من الصبر في مهمتهم السامية هذه، لأنهم يعلمون أن الطريق ليس سهلا، وأن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، وأن الأهداف النبيلة تستحق التضحيات الجسيمة، مقتديين بإمام المرسلين وسيد الأولين والآخرين محمد صلى ﷺ، الذي ظل طوال ثلاثة عشرة عاما في مكة يبنى الساجد قبل أن يبني مسجده المبارك في المدينة المنورة.

* وهم في كل ذلك يحتسبون أجورهم على الله عز وجل الذي يقول في كتابه العزيز: (إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ) [الزمر: 10].

وتشرئب أعناقهم إلى تلك الخيرية التي يشير إليها المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

رافعين أيديهم المتوضئة إلى الله جل وعلا أن يجعلهم من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته وأن يجعلهم منارات للهدى والخير.

 وأخيرا..

إخوتي، أخواتي في الله، تلكم في سطور هي رسالة المسجد وتلك إضاءات مختصرة عن دورنا في النهوض به، وتفعيل دوره ومكانته من جديد لإصلاح المجتمع وبناء نهضته.

وتلك هي كلماتي، سطرها قلمي الذي لا أبره من الخطأ، عملا بقوله عز وجل: (وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) [الذاريات: 55].

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
الإيمان يلد الأمل
السابق
سفينة "حنظلة" تبحر من صقلية نحو غزة لكسر الحصار ودعم الفلسطينيين

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع