البحث

التفاصيل

صناعة الأمـــل منهج الأنبياء والمرسلين وورثتهم الراسخين

الرابط المختصر :

صناعة الأمـــل منهج الأنبياء والمرسلين وورثتهم الراسخين

بقلم: د. توفيق زبادي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

إن الأمة الناهضة تحتاج إلى الأمل الواسع الفسيح، وقد أمد القرآنُ الأمة الإسلامية بهذا الشعور بأسلوب يُخرج من الأمة الميتة أمة كلها حياة وهمة وأمل وعزم، وحسبك أنه يجعل اليأس سبيلاً إلى الكفر، والقنوط من مظاهر الضلال، وإن أضعف الأمم إذا سمعت قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين} [القصص:5]،

وقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [آل عمران:139]،

وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَار} [الحشر:2]،

وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب} [البقرة:214].

إن أضعف الأمم إذا سمعت هذا التبشير كله، وقرأت ما إليه من قصص تطبيقية واقعية؛ لابد أن تخرج بعد ذلك أقوى الأمم إيماناً وأرواحاً، ولابد أن ترى في هذا الأمل ما يدفعها إلى اقتحام المصاعب مهما اشتدت، ومقارعة الحوادث مهما عظمت؛ حتى تظفرَ بما تصبو إليه من كمال.

تعريف صناعة الأمل:

الصنع: إجادة الفعل([1]).

الأمل في اللغة:

أ م ل: الأَمَلُ الرجاء يقال أمَل خيره يأمل بالضم أملاً بفتحتين وأَمَّله أيضاً َأْمِيلا وتأمَّلَ الشيء نظر إليه مستبيناً له([2]).

وأملاً: من باب طلب تُرَقَّبَتُه، قال زهير: أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُوَ مَوَدَّتُها([3]).

والمقصود بصناعة الأمل:

إجادة الفعل في تفجير القوة الدافعة التي تشرح الصدَر للعمل، وتخلق دواعي الكفاح من أجل الواجب، وتبعث النشاطَ في الروح والبدن، وتدفع الكسولَ إلى الجد، والمُجِّد إلى المداومة على جِدِّه، والزيادة فيه، وتدفع المخفقَ إلى تكرار المحاولة حتى ينجحَ، وتحفز الناجحَ إلى مضاعفة الجهد؛ ليزداد نجاحه.

النبي-r – والتربية على الأمل:

إن النبي -r - قذف في قلوب صحابته مشاعر ثلاثة أشرقت بها وانطبعت عليها:

أولاً: قذف في قلوبهم أن ما جاء به هو الحق وما عداه الباطل وأن رسالته خير الرسالات، ونهجه أفضل المناهج، وشريعته أكمل النظم التي تتحقق بها سعادة الناس أجمعين، وتلا عليهم من كتاب الله ما يزيد هذا المعني ثباتاً في النفس وتمسكاً في القلب: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [الزخرف:43]؛ فآمنوا بهذا واعتقدوه وصدروا عنه.

ثانياً: وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا أهل الحق وما داموا حملة رسالة النور وغيرهم يتخبط في الظلام، وما دام بين يديهم هدى السماء لإرشاد الأرض فهم إذن يجب أن يكونوا أساتذة الناس وأن يقعدوا من غيرهم مقعد الأستاذ من تلميذه: يحنوا عليه ويرشده ويقوِّمه ويسدده ويقوده إلى الخير ويهديه سواء السبيل.

وجاء القرآن الكريم يثبت هذا المعني ويزيده كذلك وضوحاً، وصاروا يتلقون عن نبيهم من وحي السماء: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون} [آل عمران:110]؛. فآمنوا بهذا أيضاً واعتقدوه وصدروا عنه.

ثالثاً: وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا كذلك مؤمنين بهذا الحق معتزين بانتسابهم إليه، فإن الله معهم يعينهم ويرشدهم وينصرهم ويؤيدهم ويمدهم إذا تخلي عنهم الناس، ويدفع عنهم إذا أعوزهم النصير وهو معهم أينما كانوا.

وإذا لم ينهض معهم جند الأرض تنزل عليهم المدد من جند السماء وأخذوا يقرءون هذه المعاني السامية واضحة في كتاب الله : }إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {[4] .

}وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ{[5] . }وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ{ [6].

قرءوا هذا وفقهوه جيداً فآمنوا به واعتقدوه وصدروا عنه.

وبهذه المشاعر الثلاثة:

-    الإيمان بعظمة الرسالة.

-    والاعتزاز باعتناقها.

-    والأمل في تأييد الله إياها.

 أحياها الراعي الأول - r - في قلوب المؤمنين من صحابته بإذن الله، وحدد لهم أهدافهم في هذه الحياة، فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظة في صدورهم أو مصاحفهم، بادية في أخلاقهم وأعمالهم معتدين بتكريم الله إياهم واثقين بنصره وتأييده، فدانت لهم الأرض وفرضوا علي الدنيا مدنية المبادئ الفاضلة وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة، وبدَّلوا فيها سيئات المادية الجامدة إلى حسنات الربانية الخالدة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

الحث على العمل وعمارة الأرض (العمل مع الأمل):

عن أنس بن مالك -t - قال: قال رسول الله - r -: ‌إِنْ ‌قَامَتِ ‌السَّاعَةُ ‌وَبِيَدِ ‌أَحَدِكُمْ ‌فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَفْعَلْ " ([7])؛ فان استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل "([8]).

هذا الحديث " مبالغة في الحث على غرس الأشجار وحفر الأنهار لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها فكما غرس لك غيرك فانتفعت به فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة "([9]) .

وذكر الزمخشري – رحمه الله – في الكشاف:" كان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار وعمروا الأعمار الطوال مع ما فيهم من عسف الرعايا؛ فسأل بعض أنبيائهم ربه عن سبب تعميرهم فأوحى الله إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي.

 وأخذ معاوية-t - في إحياء أرض، وغرس نخل في آخر عمره؛ فقيل له فيه فقال: ما غرسته طمعاً في إدراكه، بل حملني عليه قول الأسدي:

ليس الفتى بفتى لا يُستضاء به . . . ولا يكون له في الأرض آثار([10]).

وحكي أن كسرى خرج يوماً يتصيد؛ فوجد شيخاً كبيراً يغرس شجر الزيتون؛ فوقف عليه، وقال له: يا هذا أنت شيخ هرم والزيتون لا يثمر إلا بعد ثلاثين سنة؛ فلم تغرسه؛ فقال: أيها الملك زرع لنا من قبلنا؛ فأكلنا، فنحن نزرع لمن بعدنا، فيأكل؛ فقال له كسرى : زه وكانت عادة ملوك الفرس إذا قال الملك منهم هذه اللفظة أعطى ألف دينار فأعطاها الرجل فقال له: أيها الملك شجر الزيتون لا يثمر إلا في نحو ثلاثين سنة، وهذه الزيتونة قد أثمرت في وقت غراسها؛ فقال كسرى: زه فأعطى ألف دينار فقال له أيها الملك شجر الزيتون لا يثمر إلا في العام مرة وهذه قد أثمرت في وقت واحد مرتين فقال له زه فأعطى ألف دينار أخرى وساق جواده مسرعا وقال : إن أطلنا الوقوف عنده نفد ما في خزائننا"([11]).

هذا أمر الدنيا فما بالك في أمر الدين، يجب أن يظل الإنسان عاملاً داعياً إلى الله، منافحاً عن الدين لا يلقي سلاحه.

كل ما حولنا يُبشر بالأمل رغم تشاؤم المتشائمين:

 إنك إذا دخلت على مريض؛ فوجدته تدرج من كلام إلى صمت، ومن حركة إلى سكون؛ شعرت بقرب نهايته، وعسر شفائه واستفحال دائه، فإذا انعكس الأمر وأخذ يتدرج من صمت إلى كلام ومن همود إلى حركة؛ شعرت بقرب شفائه، وتقدمه في طريق الصحة والعافية.

والأمة بفضل الله تعالى فيها خير كثير:

-    فيها مجاهدون نذروا أنفسهم لإعلاء كلمة الله، والدفاع عن حياض الإسلام، وأرض الإسراء، وغيرها من بلاد المسلمين عامرة بذلك، نسأل الله أن يؤيهم، ويؤديهم بنصره، ويرزقهم من الطيبات، وينصرهم نصرًا عزيزًا.

-    فيها علماء عاملون، وفقهاء مُجِدون بذلوا أوقاتهم، لنشر العلم النافع في أرجاء المعمورة.

-    فيها متخصصون في جميع المجالات، لو فُتِح لهم المجال لنهضوا بالأمة، ورفعوا شأنها بين الأمم، لكن تعاون العملاء مع الأعداء لتصفيتهم علمياً وجسدياً حال دون ذلك.

-    فيها صحوة إسلامية تمتد في ربوع الأرض، تُحي همم الشباب، وتُخرج الكسول إلى الجد والنشاط، والعاصي إلى دائرة الالتزام، وتنشر الخلق الفاضل، وتحي في أبناء الأمة الإيجابية والأمل في نصر الله، مُدافعة عن بيضة الإسلام باللسان والسنان.

أضف إلى ذلك:

1.    تَعَري الباطل وظهوره عاريًا مما كان يتشدق به (حقوق الإنسان- الديمقراطية – حقوق الأطفال – حقوق المرأة – حرية التعبير ... وغير ذلك من مظاهر حضارتهم الجوفاء)

2.    صحوة الشباب الأحرار ونصرتهم لقضية فلسطين.

3.    صحوة بعض المثقفين، والسياسيين، والإعلاميين، وغيرهم ممن هو موضع قدوة للشباب.

وهذه المظاهر إرهاصات لعودة الإسلام إلى الريادة والحضارة.

سيروا إلى الأملِ الفسيحِ بهمَّـة  **  واللهُ يمنحكـُم الثبـاتَ ويُنْـعِـم

فإلى العمل بعد الأمل أيها الكرام، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

 



[1] مفردات ألفاظ القرآن : ص 850.

[2] مختار الصحاح : ص 20.

[3] المصباح المنير : (ج1/22)

[4] سورة الأعراف:128

[5] سورة الروم:47

[6] سورة القصص:5

[7] فسيلة : أي نخلة صغيرة إذ الفسيل صغار النخل.

[8] مسند أحمد  بن حنبل ،(ج12/ 155). قال  شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم.

[9] فتح القدير ،(ج3/ 30).

[10] تفسير الكشاف ،(ج1/ 551).

[11] فتح القدير ،(ج3/ 30).


: الأوسمة


المرفقات

التالي
دعم القيادة السورية الجديدة، وصد كل محاولات التمزيق، ومخططات التفريق واجب على كل مكونات الشعب السوري، وعموم الأمة العربية والإسلامية
السابق
الرباط في سبيل الله حراسة الدين وعمارة الحياة

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع