البحث

التفاصيل

تجويع غزة: قتل بطيء وحصار قاسٍ

الرابط المختصر :

تجويع غزة: قتل بطيء وحصار قاسٍ

بقلم: شعيب الحسيني الندوي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

الجوع الجوع! وكيف يشعر بألم الجوع من شبع كل يوم وأغدق عشيته وضحاه، إنه أفطر ثم تغدى وبعده تعشى، وبين ثنايا الوجبات يتفكه بالمأكولات الخفيفة والفواكه الرطبة واليابسة، ويروي عروقه بالأشربة المبردة والعصير الطازج، قلما يمضي يوماً، ولم يذق لذيذا من أطباق المطاعم، يجول بين الأحياء بحثا عن مطعم جديد يوفر نوعا مجددا من الأطعمة والوجبات، ويجلس إلى أترابه وأقرانه يتجاذب أطراف الحديث عن مذاق أنواع الوجبات المتوفرة في مطعم جديد وعن مجالس ونوادي مقهى شهير.

الجوع الفتاك والفقر المدقع والحرمان من الاحتياجات البشرية الأساسية أشد من الموت؛ لأنه هو الموت، ولكنه موت بطيء، يأكل من جسم الإنسان كل يوم قدر ما يحرم من الطعام الضروري حتى يبتلع كل لحمه وشحمه، ولا يترك إلا جلدا على العظام، لا يستقيم قائما، ولا يجلس قاعدا، ولا يضطجع مستويا، لا يتحرك ولا يتحدث، تنهار كل قواه وتخور كل عضلاته، لونه شاحب ودمه يتجمد وعيناه تشخصان وتجفان حتى يتمنى هو ويتمنى ذووه أن يتذوق مرارة الموت دفعة بدل الموت المستدام.

إذا فاتتك وجبة من الطعام تحس بالضعف، وتحاول أن تستدرك في الوجبة التالية ما فاتك في الأولى، الصوم من وقت طلوع الفجر إلى غروب الشمس يحاط بالوجبتين القويتين في طرفيه عند السحور وعند الفطور فلا يجد المرء شدة الجوع كمن لم يتسحر ثم أفطر على الماء.

إذا جعت صبرت، وإذا جوّع عيالك لن تصبر، إذا مرضت تحملت وإذا حرم أولادك من العلاج الضروري لن تتحمل، إذا أسيء إليك لتغفر وتصفح، وإذا أسيئ إلى آبائك وأمهاتك لن تعفو ولن تتناسى، إذا نيل من عرضك تكاد تعالج الأمر بالحكمة، وإذا نيل من عرض أهله تفور تغيظ البركان، ولن تمتلك نفسك عند الرد، إذا خذلك وشمت بك البعيدين لتغاشمت، وإذا خذلك إخوانك وأقرباؤك لن تغمض عينيك عن الهوان، ولن ترح نفسك من المضاضة والجراحة.

اعلم - يا رعاك الله - لقد تضخم الأسى، واشتد الألم وتراكم الحزن، وتكدس الغم وتأجج الهم، وعمّ اليأس وتفاقمت المصيبة وتضاعفت الرزيئة، وبلغت القلوب الحناجر، واستحالت الدموع إلى أنهار، وجفت الضلوع من كثرة البكاء في أرض غزة المنكوبة، وبلغ السيل الزبى وطم الوادي على القرى، لقد تسلط على إخواننا المؤمنين المرابطين ألد الأعداء الذي لا يراقب فيهم ذمة ولا إنسانية، استخدم الكيان الصهيوني الغاشم كل الطرق والوسائل المتاحة لكسر إرادة الشعب وتجريدها من كرامة حريتها، فلم ينكسر ولم يتنازل ولم ينهزم وبقي مرفوع الرأس في أرضه ووطنه وأيد المقاومة من غير ارتياب أو تقصير، أتى العدو الماكر من شتى الجهات لفك عرى المقاومة ولم ينجح، قتلهم وشردهم ودمر ديارهم، وكبت صوتهم واعتقلهم وأخيرا استخدم سلاح التجويع، وهذا أشد مما مضى، مئات الأطفال والشيوخ والنساء ماتوا جائعين، ومئات الآلاف جوعا ينتظرون لقيمات يقمن صلبه، وإذا قاموا في الصف لتلقي كيس من الطحين يقتلون وتفتك دماءهم بلا هوادة، وعشرات القتلى في ساعات في ساحة المساعدات الإنسانية ببندقية الجيش الهمجي الوحشي الشرس، حوصرت غزة من الجهات كلها، ولا تصل إليها أفقر الضروريات من الاحتياجات البشرية، لا دواء ولا وقود، لا طعام ولا شراب، توقفت المستشفيات من الخدمة إذا بقيت من هجمات القنابل، الوضع كارثي بكل معنى الكلمة، والبلاء عظيم بكل مفهوم التضحية، فمن مات أو استشهد نجا من ألم الحياة ومن بقي يطول امتحانه ويزيد ابتلاءه، يرى أهله وذويه يتململون ويتباكون لكسرة من الخبر أو شربة من الماء الصافي.

والعجب العجاب أن المساعدات الإنسانية تضاعفت عند الحدود والمعابر، ولم تقدر الدول المجاورة والدول العربية الضغط على العدو اللئيم أن يتنكب عن استهداف الخدمة المدنيين والأطباء الدوليين فضلا عن إرغامه وإلجامه من كسر الحصار وإدخال المساعدات، بلغ الخذلان لهم مبلغه، يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عنه ابن عمر رضي الله عنهما: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة". (رواه مسلم).

كم خذلنا إخواننا في غزة! كيف هجرناهم ورفعنا أيدينا عنهم! كم أصبنا بالهوان أن نرى بأم أعيننا أطفالا رضعا يموتون جوعا، ولا نمد يدنا إليهم نرى الأمهات والشيوخ يغمون من شدة الجوع، شيخ مسن لم يذق طعاما من اثني عشر يوما ووالداً لا يملك أن يملأ بطن ولده وأم لا تقدر أن تقطر لبنا من ثدييها لرضيعها، يفشو الوباء ولا يوجد دواء، كارثة تلو كارثة، مصيبة بعد مصيبة لا يتحمل الإنسان رؤية الأوضاع فكيف بمعالجتها واحتكاكها، يغدو القلب من هول المنظر كرماد تذروه الرياح، ويغشاه الفزع كسحب سوداء لا تمطر إلا وجعا.

فك الحصار واجب شرعي وإنساني، وإدخال المساعدات الإنسانية فرض محتوم على الأمة المسلمة لا محيد عنه، ولا تتبرأ جمهورية مصر من هذه الذمة، وهذا الواجب عند الله ولا عند الناس، أذكر أهل مصر بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به. (رواه الطبراني في الكبير عن أنس بن مالكؓ)

على العلماء والدعاة شرقا وغربا أوكد الواجبات اليوم أن يلتفوا حول راية واحدة، ويتحركوا إلى مصر وفودا، ويحرضوا الشعب المسلم فيها، ويضغطوا على حكومتها أن تسمح لهم الدخول عبر معبر رفح، وإذا اجتمع قادة الأمة الدينيين والدعاة الإسلاميون جماعات وجمعيات بمئات الألوف والملايين، وقادوا الموكب الهائل لانقلبت الأمور، ويتغير الوضع بإذن الله، وإذا لم نقم بهذا الواجب، وبقينا متفرجين مثل غيرنا لن نكون براء عند الله، ويكون خصومنا هؤلاء الشيوخ والرضع والنسوة والمؤمنين المرابطين المجاهدين.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
رسالة الشيخ الددو لأحرار العالم والأمة: الاحتلال يُبيد أهل غزة بالجوع والحصار وسط صمت عالمي مخزٍ
السابق
الرباط في سبيل الله حراسة الدين وعمارة الحياة

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع