البحث

التفاصيل

غزة .. سوق الجنة ودركات الجحيم

الرابط المختصر :

غزة .. سوق الجنة ودركات الجحيم

بقلم: طه سليمان عامر

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

فإن غزة تعيش مأساة لا مثيل لها في العصر الحديث، بل تفوق العصور كلها، وذلك لأن الكوارث والمذابح التي وقعت قديما كانت تصل إلى مسامع الناس بعد أيام أو شهور أو سنوات، وربما لا يعلمون عنها شيئا، أما الآن فهناك أكثر من مليوني إنسان محاصرين في غزة، حرب إبادة جماعية بشكل مستمر، حرب تهجير، حرب تجويع وحصار كامل، أهلنا في غزة يفترسهم الجوع والمرض، يتساقطون أمام أعين العالم، ونرى الأطفال الصغار يبكون بدموع بريئة، ويصرخون صرخة المستغيث، لماذا لا يجد الطفل البريء كسرة خبز؟ لماذا لا يجد شربة ماء؟

لعله يسأل بائساً: ماذا فعلنا حتى أصابنا ما نرى؟ بأي ذنب اقترفناه؟

كم هو شديد على النفس أن يتلوى ابنك جوعا ونفسك تتقطع ولا تملك له شيئا..

كم هو قاس على النفس أن ترى ولدك ووالديك وأحبابك صاروا خلقا آخر لا تعرفهم من الهزال.

لمثل هذا يذوب القلب من كمد *** إن كان في القلب إسلام وإيمان

كيف نشعر بالراحة وأهلنا لا يجدون قوتا، ولا يهتدون سبيلاً؟!

كيف نهنأ بالعيش وإخواننا فقدوا جميع مقومات الحياة؟!

كيف ننام ملء جفوننا وأهل غزة فارقهم النوم من الجوع والخوف والألم؟!

كيف نستريح والحصار يفتك بمن يدافعون عن مقدساتنا وكرامتنا؟!

إن كثيرا من غير المسلمين خرجوا في مظاهرات رافضة لهذا الحصار الوحشي حول العالم، بل الأعجب أن تخرج مظاهرات في الكيان نفسه دون خروج مظاهرات في كثير من الدول العربية، ما هذا الهوان الذي وصلنا إليه؟

كيف يموت مليونا إنسان جوعا وسط 300 مليون عربي مسلم؟

إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا عن امرأة استحقت النار؛ لأنها حبست قطة حتى ماتت جوعا، فكيف بالإنسان؟!

لقد عظم الله حفظ النفس الإنسانية، وجعلت الشريعة حفظ النفس من أهم مقاصدها، ومن عظمة تلك النفس أن الخلق جميعاً لو اشتركوا في قتلها لاستحقوا عذاب النار.

فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لو أنَّ أهلَ السَّماءِ وأهلَ الأرضِ اشتركوا في دمٍ لأكبَّهم اللهُ في النَّارِ) صحيح الترغيب / المنذري.

ما أعظم الكعبة في نفوسنا، لكن دم المسلم منها أعظم، فإن فزعنا لانتهاك حرمة الكعبة المشرفة، فيجب أن نفزع أكثر لحرمة دم المسلم، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: (رأيتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يَطوفُ بالكعبةِ وهوَ يقولُ ما أطيبَكِ وأطيبَ ريحَكِ ما أعظمَكِ وأعظمَ حرمَتكِ، والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ لحُرمةُ المؤمنِ أعظمُ حُرمةً عِندَ اللهِ مِنكِ مالُهُ ودمُهُ، وأنْ يُظنَّ بهِ إلا خيرًا) أخرجه ابن ماجه.

هناك كثير من الواجبات تجاه أهلنا في غزة في ظل الحصار الكارثي منها:

أولا: النجدة والإغاثة:

بعد حصار الشعب الذي دام ثلاث سنوات على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أكل الصحابة ورق الشجر قام عدد من المشركين أصحاب النخوة والمروءة، وفي مقدمتهم هشام بن عمرو، حتى اجتمع معه أربعة آخرون.

فقام زهير بن أمية، وطاف بالبيت سبعًا، ثم وقف وقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشمٍ هلكى لا يبتاعون ولا يُبتاعُ منهم، والله لا أقعد حتى تُشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

وكسروا الحصار.

أهل غزة لا يجدون ورق الشجر، فقد أحرق الاحتلال الأخضر واليابس، ودمروا غزة وجميع مقومات الحياة.

إن غزة اختبار إيماني وأخلاقي عظيم، كيف يموت أهلنا جوعاً، وما زال فينا من ينفق ماله، دون أن يوقن أن لأطفال غزة نصيباً منه؟

كيف يتجول أحدنا في رحلات، ثم ينشر لقطات من الطعام والشراب والأماكن التي يقضي فيها عطلته، دون أن يحس بألم الضمير؟ هل فقد الشعور لهذه الدرجة؟

من لم يرى أطفال غزة شركاء في ماله، فليراجع أخلاقه وإيمانه، من لم يحزن ويتألم ويبكي حرقة لغزة فليراجع إيمانه.

غزة سوق الجنة والنار

لقد جعل الله غزة سوقاً للجنة وسوقاً للنار، سوقاً للجنة تنافس فيها الشهداء والجرحى والصابرون والثابتون والصامدون والمناصرون، والمغيثون، والراكون الساجدون، والمنفقون.

وسوقا للنار يتساقط فيها القتلة والمحاصرون والخائنون والصامتون والشامتون والداعمون للاحتلال الباغي.

والخوف كله أن يصيبنا شررٌ من الخذلان.

إن كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يخشى على نفسه من النفاق، فيسأل حذيفة بن اليمان، هل سماني لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين؟

فيجب أن نخشى على أنفسنا أن نكون مما خذل غزة وأهلها.

روى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة بن سهل الأنصاري أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته.

في عام الرمادة كان عمر بن الخطاب يأكل الزيت والخل تضامنا مع الجائعين، لا نقول: نجوع لنشعر بغزة، لكن لا يجوز أن تجرى حياتنا بشكلها المعتاد، يجب أن نتألم ونشعر بمعاناة أهلنا، ونمتنع عن الرفاهية التي اعتاد البعض عليها حتى يشبع أطفال غزة وينكسر الحصار.

دخلوا على بشر الحافي وهو أحد أئمة السلف الصالح - وهو متخفف من ثيابه في يوم شديد البرد، فقالوا له لم فعلت هذا بنفسك؟

فقال: تذكرت الجائع والعاري، ولم أجد ما أواسيهم به إلا هذا.

حين نتضامن بهذا المستوى سنشعر بأننا بشر ولسنا حجرا، سنشعر بآدميتنا، سنشعر بأننا أحياء، ستشعر بأن لنا روحا وقلبا، سنفوز بالشرف والكرامة.

قال تعالى: [فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ...].

ثانيا: المبادرات الدائمة لكسر الحصار

لا يجوز أبدا أن نتحرك ثم نسكن، بل يجب أن تدوم حركتنا، وتتنوع وسائلنا التي تضغط على العالم كله لكسر الحصار ورفع الظلم عن أهلنا وتلك وسائل كثيرة:

* المشاركة في الوقفات والمظاهرات أمام السفارات المهمة، الرافضة لهذا الظلم والتجويع الممنهج.

* فضح جرائم الاحتلال في وسائل التواصل المتاحة.

* التواصل مع النخب السياسية والبرلمانيين في أوروبا والغرب عامة لرفع الحصار ووقف الحرب.

* المشاركة في مبادرات الإضراب عن الطعام ومساندة قوافل كسر الحصار عن غزة.

على أن نكون أصحاب نفس طويل ولا نكل ولا نمل، حتى يُرفع هذا الحصار الظالم، ويشبع الجوعى ويأمن الخائفون.

وإننا على ثقة من وعد الله لنا بالتأييد، وعلى يقين من هلاك الظالمين ولو بعد حين.

ثالثا: الصلاح والإصلاح

وقف مطرف بن عبدالله، وبكر المزني بعرفة فقال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي.

وقال الآخر: ما أشرفه من موقف، وأرجاه لأهله لولا أني فيهم.

يا الله... مع ما هما عليه من سبق وعلم وفضل وصلاح، لكن الخشية سابغة على قلوبهما، حتى إنهما يخافان على الناس من تقصيرهما!

وهنا علينا أن نسأل أنفسنا:

- هل قطيعتنا للأرحام سبب من أسباب تأخر النصر؟

- هل أكل الحرام والغش والتدليس الذي يقع فيه كثير من الناس عامل من عوامل الفشل الذي تمنى به الأمة من وقت لآخر؟

- هل التنازع والتفرق والبحث عن المصالح الضيقة أدى حالة الوهن والضعف الذي نعاينه؟

- هل أكل مال اليتيم وأكل الميراث الحاصل بين المسلمين في الشرق والغرب سبب في الحرمان من التوفيق الإلهي في مواطن متعددة؟

- هل ذنوبنا وتقصيرنا سبب فيما يجري لنا؟

لذلك كله علينا إصلاح ما بيننا وبين الله تعالى، وتجديد التوبة، ورد المظالم، وكثرة التضرع إلى الله تعالى، وقيام الليل والدعوة إلى الصيام الجماعي والتواصي به بين أفراد الأسرة.

إن دماء الشهداء في غزة لن تذهب سدى، ولن تضيع هدراً، فهي تسطر مستقبل المجد والكرامة للأمة والإنسانية، وترسم طريق النور للأحرار. وستكون لعنة على الظالمين.

وإن تلك الآهات والأوجاع والآلام لتسكن قلب كل مؤمن وحر حول العالم، والله يسمع ويرى، ولسوف يرى الظالمون أي منقلب ينقلبون.

اللهم كن مع أهلنا في غزة نصيرا ومعينا يا رب وأهلك الظالمين المحتلين.

قال تعالى: [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21).

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

السابق
مسلمو الهند يطلقون صرخة ضد الإبادة والتجويع في غزة ويطالبون برفع الحصار فورًا

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع