البحث

التفاصيل

التمكين للمؤمنين في قصة موسى عليه السلام

الرابط المختصر :

التمكين للمؤمنين في قصة موسى عليه السلام

بقلم: علي محمد الصلابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

تطاول فرعون وعلا وأسرف في الأرض وأذل بني إسرائيل، وأراد الله أن ينتقم من فرعون وهامان وجنودهما، قال تعالى: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) [القصص: 5، 6].

قال الشيخ محمد الأمين في تفسيره لهذه الآية، قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا) [القصص: 5]، هو الكلمة في قوله تعالى: (وتَمّت كَلمتُ ربّك الحُسنى على بني إسرائيل) [الأعراف: 137]

وقال الإمام ابن كثير في تفسيره: (لقد سلط على بني إسرائيل هذا الملك الجبار العتيد (فرعون) يستعملهم في أخسّ الأعمال، ويكدهم ليلًا ونهارًا في أشغال رعيته ويقتل مع هذا أبناءَهم ويستحيي نساءهم إهانة لهم واحتقارًا لهم، وخوفًا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه، وكانت القبط قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام حين ورد الديار المصرية وجرى له مع جبارها ما جرى حين أخذ سارة ليتخذها جارية فصانها الله منه ومنعه منها بقدرته وسلطانه، فبشر إبراهيم، عليه السلام، ولده أنه سيولد من صلبه وذريته من يكون هلاك مصر على يديه، فكانت القبط تحدث بهذا عند فرعون فاحترز فرعون من ذلك وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل، ولن ينفع حذر من قدر، لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ولكل أجل كتاب.

أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى فما نفعه من ذلك مع قدرة الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري ولا يغلب، بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده وقتلت بسببه ألوفًا من الولدان إنما منشؤُه ومرباه فراشك وفي دارك، وغذاؤه من طعامك وأنت تربّيه وتدللـه، وحتفك وهلاكك وهلاك جنودك على يديه، لتعلم أن رب السماوات العلا هو القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن).

وقال البيقاعي رحمه الله: (ونمكن أي نوقع التمكين لهم في الأرض أي كلها لا سيما أرض مصر والشام، بإهلاك أعدائهم وتأييدهم بكليم الله، ثم الأنبياء من بعده عليهم، الصلاة والسلام، بحيث سلّطهم بسببهم على من سواهم بما يؤيدهم به من الملائكة وتظهر لهم من الخوارق، ولما ذكر التمكين، ذكر أنه مع مغالبة الجبابرة إعلامًا بأنه أضخم تمكين).

وقالَ الشيخ محمد الأمين في تفسيره لهذه الآية، قوله تعالى: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا) [القصص: 5]، هو الكلمة في قوله تعالى: (وتمّت كلمتُ ربّك الحُسنى على بني إسرائيل) [الأعراف: 137]، ولم يبين هنا السبب الذي جعلهم به أئمة جمع إمام، أي قادة في الخير دعاة إليه على أظهر القولين، ولم يبين هنا أيضًا الشيء الذي جعلهم وارثيه، ولكنه بين جميع ذلك في غير هذا الموضع، فبين السبب الذي جعلهم به أئمة في قوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) [السجدة: 24]، فالصبر واليقين، هما السبب في ذلك، وبين الشيء الذي جعلهم له وارثين: (فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل) [الشعراء: 57- 59].

لقد تطاول فرعون وعلا وأسرف في الأرض وأذل بني إسرائيل، فقتل الأولاد واستحيا النساء ظلمًا وعلوًا واستكبارًا في الأرض، وأراد الله بحكمته ومشيئته وقدرته أن يمن على بني إسرائيل ويجعلهم ملوكًا وولاة ويجعلهم يرثون الأرض من بعد فرعون

قال محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله: (إن الله وصف فرعون وصفًا دل على شدة تمكين الإفساد من خلقه (إنه كان من المفسدين) [القصص: 4] فحصل تأكيد لمعنى تمكن الإفساد من فرعون، لأن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة:

* المفسدة الأولى: التكبر والتجبر فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد جمة من احتقار الناس والاستخفاف بحقوقهم وسوء معاشرتهم وبث عداوته فيهم، وخصوصًا إذا كان حاكمًا أو وليًا فيعامل الناس بالغلظة، وفي ذلك بثّ الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته، فهذه الصفة هي أمّ المفاسد وجماعها.

* المفسدة الثانية: جعل شعبه شيعًا قرب بعضهم وأبعد بعضهم، وتولدت بينهم مفاسد عظيمة من الحقد، والحسد، والوشاية، والنميمة.

* المفسدة الثالثة: جعل طائفة من أهل مملكته في ذل وصغار واحتقار، عذبهم ونكل بهم ومنعهم من حقوقهم وجعلهم عبيدًا للطائفة المقربة لديه.

* المفسدة الرابعة: اجتهد في قتل أطفال الطائفة المعذبة من الذكور حتى لا يكون لبني إسرائيل قوة من رجال قبيلتهم وحتى يكون النفوذ في الأرض لقومه خاصة.

* المفسدة الخامسة: كان يستحيي النساء أي يستبقي على حياة الإناث من الأطفال حتى يصبحن بغايا إذ ليس لهن أزواج. (وكان قوم فرعون يحتقرونهن ويأنفون أن يتزوجوا بهن ولم يبقَ لهن حظ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة، فانقلب استحياء البنات إلى مفسدة عظيمة تصل إلى منزلة تذبيح الأبناء).

يظهر من خلال الآيات الكريمة: أن الله، عز وجل، أوحى إلى أم موسى بأن ترضعه فإذا خافت عليه، فعليها أن ترميه في اليم، فالله، عز وجل، لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وعلى أهل الحق أن يبذلوا جهدهم

لقد تطاول فرعون وعلا وأسرف في الأرض وأذل بني إسرائيل، فقتل الأولاد واستحيا النساء ظلمًا وعلوًا واستكبارًا في الأرض، وأراد الله بحكمته ومشيئته وقدرته أن يمن على بني إسرائيل ويجعلهم ملوكًا وولاة ويجعلهم يرثون الأرض من بعد فرعون، ويمكن لهم بعد الذل والصغار، وينتقم من فرعون وهامان وجنودهما ويريهم ما كانوا يخافون من زوال ملكهم على رجل من بني إسرائيل، قال تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) [القصص: 5، 6].

(ونريد) جيء بصيغة المضارع في حكاية إرادة مضت لاستحضار ذلك الوقت كأنه في الحال؛ لأن المعنى أن فرعون يطغى عليهم والله يريد من ذلك الوقت إبطال عمله وجعلهم أمة عظيمة.

قوله: (استضعفوا) فيه تعليل، بأن الله رحيم بعباده، وينصر المستضعفين، وخص بالذكر من المن أربعة أشياء عطفت على فعل (نمن) عطف الخاص على العام، وهي: جعلهم أئمة، وجعلهم الوارثين، والتمكين لهم في الأرض، وأن يكون زوال ملك فرعون على أيديهم، ونعم أخرى جمة.

إن الله، تعالى، من سننه الجارية في الأمم والشعوب والمجتمعات والدول إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابه، وأتى به شيئًا فشيئًا بالتدرج لا دفعة واحدة، فعندما وصل الظلم إلى أقصى منتهاه، ووصل الاستضعاف إلى أسفل نقطة ممكنة، كانت تلك النقطة بداية التمكين لبني إسرائيل، وبدأت قصة التمكين وإنفاذ مشيئة الله، عز وجل، بالاهتمام بالرضيع في قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) [القصص: 7].

ويظهر من خلال الآيات الكريمة: أن الله، عز وجل، أوحى إلى أم موسى بأن ترضعه فإذا خافت عليه، فعليها أن ترميه في اليم، فالله، عز وجل، لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وعلى أهل الحق أن يبذلوا جهدهم، وهو إن كان قليلًا فإن الله، عز وجل، سوف يبارك فيه، وسوف يهيئ من الأسباب التي يمكّن بها لدينه وأهله.

إن سنن الله الكونية نافذة وعلى أهل الإيمان ألا يتأخروا في الأخذ بالأسباب المتاحة، فهذا مبلغ جهد أم موسى في حماية موسى الرضيع، والذي تولى حمايته ونصره في الحقيقة هو الله، عز وجل، ذو الجلال والإكرام، وكان يمكن أن تحصل الحماية والرعاية دون أسباب؛ ولكن الله من سنته إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابه، فألقى الله في قلب امرأة فرعون محبة موسى وكان سببًا في نجاته من الذبح، لقد مكّن الله، تعالى، حب موسى، عليه السلام، من قلب زوجة فرعون وأعطاها من القدرة على الجدل والنقاش بحيث أقنعت فرعون بتركه لها.

هذه إشارة قرآنية في قوله: (قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون) [القصص: 11]، إلى الأخذ بالأسباب والحذر والاهتمام بالتربية الأمنية العالية خصوصًا للأمة التي تسعى للتخلص من الظلم وكبرياء المتسلطين

ونرى في الآيات الكريمة لطف الله بأم موسى بذلك الإلهام الذي به سلم ابنها، ثم بتلك البشارة من الله لها برده إليها، التي لولاها لقضى عليها الحزن بسبب ولدها، وبذلك وغيره نعلم أن ألطاف الله على أوليائه لا تتصورها العقول، ولا تعبر عنها العبارات، وتأمل موقع هذه البشارة وإنه أتاها ابنها ترضعه جهرًا، وتسمى أمه شرعًا وقدرًا وبذلك اطمأنّ قلبها وازداد إيمانها.

إن الله مكن حب موسى، عليه السلام، من قلب امرأة فرعون، فكان سببًا في تمكين موسى، عليه السلام، من ثدي أمّه وحضنها الحنون.

ونرى في الآيات الكريمة إرشادًا مهمًا ألا وهو: أن العبد وإن عرف أن القضاء والقدر حق، وأن وعد الله نافذ لا بد منه، فإنه لا يهمل فعل الأسباب التي تنفع، فإن الأسباب والسعي فيها من قدر الله، فإن الله قد واعد أم موسى أن يرده إليها، ومع ذلك لما التقطه آل فرعون سعت بالأسباب وأرسلت أخته لتقصه وتعمل الأسباب المناسبة لتلك الحال.

وهذه إشارة قرآنية في قوله: (قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون) [القصص: 11]، إلى الأخذ بالأسباب والحذر والاهتمام بالتربية الأمنية العالية خصوصًا للأمة التي تسعى للتخلص من الظلم والجبروت وكبرياء المتسلطين، بل إن من أسباب نجاح الحركات التي تعمل لتحرير شعوبها من أغلال الحكام الظالمين نجاحها في الجوانب الأمنية، ونرى من خلال الآيات الكريمة: أن الأمة المستضعفة، ولو بلغت من الضعف ما بلغت، لا ينبغي أن يستولي عليها الكسل عن السعي في حقوقها، ولا اليأس من الارتقاء إلى أعلى الأمور، خصوصًا إذا كانوا مظلومين، كما استنقذ الله أمة بني إسرائيل على ضعفها واستعبادها لفرعون ومَلَئِه، ومكنهم في الأرض وملكهم بلادهم.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
القره داغي: "هدم منزل الشيخ عكرمة صبري عدوان على صوت يوجع الاحتلال ويوقظ الأمة"

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع