رسائل القرآن في وقت المحن والأزمات
بقلم: طه سليمان عامر
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
حين
تضطرب الرؤى وتختل الموازين يأتي القرآن العظيم فينير لنا الطريق، ويعتدل الميزان
وتقوم الحجة وتتضح المحجة.
حين تعصف
بنا المحن والنكبات، وتشتد علينا الشدائد والأزمات وتقترب الأقدام من الزلل، فلا
ملجأ لنا نحو الثبات والصمود غير القرآن العظيم وتأمله والعكوف عليه طويلاً.
قال
تعالى: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ
النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ] (سورة إبراهيم: 1).
ويا ليت
شعري لقد تذكرت أثر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على تلاميذه، فاسمع ما قاله الإمام
ابن القيم حين كان يزوره في سجنه، يقول: "وكنا
إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه، فما هو إلا أن
نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحا، وقوة، ويقينا، وطمأنينة.
فسبحان
من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها
ونسيمها وطيبها، ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها".
قلت: هذا
كلام بشر لبشر وذاك أثره العظيم؛ فكيف بصنيع كلام خالق البشر وتأثيره في النفوس؟
كيف حين
نُقبل على كلام الله تعالى نسترشده ونستهديه ونستنطقه، نجد الأثر العظيم في قلوبنا
طمأنينة وفي عزائمنا رشداً وفي نفوسنا أملاً وفي أرواحنا إشراقاً ومواقفنا ثباتاً
وحياتنا بركة، وحركتنا توفيقاً، وتأييداً وتسديداً.
قال
تعالى: [قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن
رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ
لِلْمُسْلِمِينَ] (سورة النحل: 102).
نعم إنه
هدى من كل ضيق، ومخرج من كل هم، ومفتاح لكل رحمة، نعم هو هدى، ومن يؤمن به ويتلوه
بلسانه وقلبه فهو على هدى ونور من ربه، فلا يجزع المؤمن ولا ييأس ولا تستوعبه
الأحداث، ولا تنال من عزيمته نوائب الدهر.
وفي
قافلة النبيين المأوى لكل تائه والقِبلة لكل ضائع والبلسم لكل جريح والأمل لكل
بائس والسرور لكل حزين والبشرى لكل مؤمن.
قال
تعالى: [وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ
الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ
وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ] (سورة هود: 120).
وفي ظل
المؤامرات المتتابعة على الأمة وفي قلبها فلسطين، وفي ظل حرب الإبادة والتجويع
والحصار الكارثي على أهل غزة الصامدة الصابرة، يجب أن نعتصم بالقرآن الكريم ونرى
الأحداث في أضوائه والحق في أنواره، وتلك بعض رسائل القرآن الكريم لنا.
أولاً: مصائر الخلق ومقادير الحياة بيد الله وحده
حين يوقن
المؤمن أن الكون وما فيه تحت مشيئة الله تعالى فإن قلبه يطمئن وروحه تسكن إلى لطف
قدر الله تعالى.
قال
تعالى: [إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ
إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ] (سورة
يوسف: 100).
إنّٓ أمر
النصر والهزيمة والرفع والخفض والبسط والقبض والمنح والمنع بيد الله وحده، والكلمة
الأخيرة في هذا الكون لله تعالى.
قال
تعالى: [وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ
عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] (سورة هود:
123).
إن حجم
المؤامرات على غزة كبير وأعداء الحق وحزب الباطل يمكرون الليل والنهار من أجل
إنهاء قضية فلسطين واحتلال ما تبقى منها وتشريد أهلها جميعا.
هذا
مكرهم الذي تزول منه الجبال وإننا ننتظر مكر الله بهم.
قال
تعالى: [وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا
دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً
بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)]
(سورة النمل).
لقد قامت
في الأرض أممٌ شيدت قصوراً ودوراً وأبنية شاهقة وحضارات سامقة، وعمروها أكثر مما
عمروها، ولكن حين تجبرت في الأرض وظنت أنها عليها قادرة جاءها بأس الله تعالى
فأصبحت أثراً بعد عين.. كأن لم تغن بالأمس.. فلا تأس على القوم الظالمين.
ثانياً: قم بواجبك ولا تلتفت
علينا
واجبات نفي بها، ومقتضيات لابد من بذلها، ثم بعد ذلك ننتظر من الله تعالى وعده لنا
بالنصر دون ريب، ولا تلتفت للناس، لا تلتفت للمتخاذلين والمحبطين، تأمل أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
قال
تعالى: [فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۖ إِنَّكَ
عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ] (سورة النمل: 79).
وقال
تعالى: [وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ
(217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)] (سورة الشعراء).
والتوكل
على الله ثمرة معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، فلا ينال العدو من قلب المؤمن
شيئاً، يمكن أن يحاصروا غزة سنوات طويلة، يمكن أن ينالوا من الأجساد الضعيفة
بالقتل والتجويع كما هو حاصل، يمكن أن يقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ ويهدموا
المساجد والمآذن والبيوت والاشجار والأحجار، لكنهم لن ينالوا من إيمان أهل غزة
شيئا، ولن يقتلوا فينا الأمل بالنصر، ولن يهدموا صرح البطولة والمجد الذي شيدته
نساء غزة وأطفالها.
تالله ما الدعوات تُهزم
بالأذى *** أبداً وفى التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد ألهب
أضلعي *** بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكريَ ساعة *** أو
نزع ايماني ونور يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في
يدى ***
ربي وربي ناصري ومعيني
سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي *** وأموت
مبتسماً ليحيى ديني
سنقول ما
قال هود عليه السلام:
قال
تعالى: [مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ
لَا تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا
مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ (56)] (سورة هود).
ونردد ما
قاله لوط عليه السلام:
قال
تعالى: [قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ
آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ] (سورة
هود: 80).
لن نخشى
من فوات الرزق ولا نقصان الأجل، وما قدَّره الله كان، وما فاتتا من شيء إلا أخلفنا
الله خيراً منه، [فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ
كَثِيرَةٌ ۚ ..] (سورة النساء: 94).
نحن على
يقين أن الله تعالى يدبر لنا، ويهيء الكون لأمر عظيم [وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ] (سورة ص:
88).
ثالثا: ميزان الخسارة والفوز
لا تحسبن
الفوز والنصر والغلبة بقوة المال أو قوة السلاح أو كثرة البطش وحرق الأرض والحجر
والشجر، فإن الركون إلى القوة الظاهرة والتنكر للقيم والأخلاق يحمل سبب الهلاك،
ففرعون الذي علا في الأرض وتجبر وجعل أهلها شيعاً كان غالبا في البطش والقتل، لكن
الله أهلكه فخسر الدنيا والآخرة.
وقارون
الذي خرج على قومه في زينته كبراً واختيالاً فكان مآله: [فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ
مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ]
(سورة القصص 81).
وتلك أمم
غيرهم جرت عليهم قوانين البوار.
قال
تعالى: [فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ
وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ] (سورة فصلت: 15).
قال
تعالى: [فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم
مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ
وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]
(سورة العنكبوت: 40).
وتلك سنة
الله في الظالمين.
على أن
النصر الأعظم يكون حين يملك المرء نفسه ويتحكم في شهواته ويكبح جماح نفسه ويقودها
نحو الفضائل ومكارم الأخلاق. الفوز الحقيقي يكون في ميدان القيم والأخلاق ويقظة
الضمير، والعالم أمام مجاعة غزة في اختبار الأخلاق والضمير، إذ كيف يَقبل أن يموت
الأطفال والنساء جوعاً في عالم ينادي بحقوق الإنسان؟
الانتصار
أن تبقى على الحق ثابتاً وأن لا تذعن للظالم وتقر له بحقك مهما تطاول الزمان.
لقد احتل
الصليبيون القدس قرابة تسعين عاما ولم تستسلم الأمة أو تركع لغير الله، وتطهرت
القدس منهم وخرجوا صاغرين، وسوف تفوز القدس والأقصى بالحرية مهما بدا الليل حالك
السواد وقل النصير وضعف الظهير.
الخسارة
أن يخسر المرء نفسه ورضا ربه ويُورد روحه النار.
قال تعالى:
[قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِين] (سورة الزمر: 15).
والفوز
من باع نفسه لله رخيصةً وكان بعهده مع ربه وفيا.
قال
تعالى: [فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] (سورة التوبة:
111).
الفائز
من صبر وصابر ورابط على الحق ونصرة الحق إلى آخر نفس من روحه إلى أن يجد الجزاء الأوفى
في الآخرة، وهل هناك جزاء أعظم وأرق من جوار رب كريم، تأمل هذه الآية الكريمة التي
تسكب في نفس كل مبتلى الرضا والسكينة: [إِنِّي
جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ]
(سورة المؤمنون: 111).
جزيتهم
اليوم......يوم الجزاء...يوم العوض...يوم جبر الكسر والخاطر..
قال بعض
أئمة السلف: "ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا، جبر الله لهم كل مصيبة بالجنة".
رابعا: لا تحزن ولا تيأس
لا تحزن
إن علا الباطل وتجبر واستكبر، وتذكر قول الله تعالى: [فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الْأَرْضِ ۚ ] (سورة الرعد: 17).
لا تحزن
ولا تيأس وإن كانت الأمة تعيش حالة ضعف وتراجع.
قال
تعالى: [وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا
وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (سورة آل عمران: 139).
لا
تحزنوا ولا تيأسوا فوعد الله حق ولا يجوز أن نُصاب باليأس أو تعمل في أنفسنا
الأراجيف ووساوس الشياطين.
قال
تعالى: [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ
وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ] (سورة الروم: 60).
وصية قرآنية أخيرة
قال
تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]
(سورة آل عمران: 200).
اصبروا
على شهوات النفس وضعفها ونقصها، ومطامعها، ومطامحها، وعجلتها.
اصبروا
على طول الطريق وتكاليف الثبات على المبادئ والعزة والكرامة، اصبروا على انتفاش
الباطل وعلوه واستكباره، اصبروا على البناء والتربية، اصبروا على البذل والإنفاق،
اصبروا على نصرة المظلوم ومواجهة الظالمين في معركة الحق والباطل، اصبروا على
الخذلان والهوان والمؤامرات.
وصابروا..
فلا يليق أن يكون الظالم أكثر جَلدا من أهل الحق، صابروا فلا يجوز أن يكون العدو
أطول نفساً، وأكثر بذلاً، وتضحيةً، وإصراراً.
ورابطوا...
لا تتركوا مواطن الحق بعد أن أقامكم الله فيها.
رابطوا
على ثغور الإسلام والدفاع عن حقوق المظلومين.
والفلاح
عاقبة التقوى والصبر والمصابرة والمرابطة في سبيل الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة:
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين.