البحث

التفاصيل

أيها الدعاة.. اضبطوا البوصلة

الرابط المختصر :

أيها الدعاة.. اضبطوا البوصلة

بقلم: د. توفيق زبادي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

داءُ خفيُّ يتسلّل إلى النفوس باسم "النقد"؛ فإذا به يتحول إلى إعجاب بالنفس، واحتقارٍ للناس؛ فيُفسد القلوب، والعلاقات، والمجتمعات، ويشتت الجهود، ويجحد عِشْرة مباركة؛ يأتي البيان النبوي؛ ليُوقظ الوعي، ويعيد ضبط البوصلة القلبية واللسانية:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ: " إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ "(صحيح مسلم، باب: بَابُ النَّهْيِ عَنْ قَوْلِ هَلَكَ النَّاسُ،(2623)).

((أهلكهم)) على وَجْهَيْن:

أَحدهمَا: بِضَم الْكَاف(أَهْلَكُهُمْ)، وَالْمعْنَى: هُوَ أَشَّدهم هَلَاكًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لأحد مَعْنيين: إِمَّا للإزراء عَلَيْهِم، والاحتقار لَهُم، وتفضيل نَفسه، أَو للْقطع عَلَيْهِم بِاسْتِحْقَاق الْعقُوبَة؛ فَكَأَنَّهُ يقنطهم من رَحْمَة الله.

 وَالْوَجْه الثَّانِي: بِفَتْح الْكَاف(أَهْلَكَهُمْ)، على معنى: هُوَ الَّذِي يحكم عَلَيْهِم بِالْهَلَاكِ بِرَأْيهِ لَا بِدَلِيل من أَدِلَّة الشَّرْع. وَالْأول أظهر وَأشهر (كشف المشكل، لابن الجوزي: 2/ 560).

و"معنى هذا الكلام أن لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساويهم، ويقول قد فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك من الكلام، يقول إذا فعل الرجلُ ذلك؛ فهو أهلكهم، وأسوأهم حالاً مما يلحقه من الإثم في عيبهم، والازراء بهم، والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه؛ فيرى أن له فضلاً عليهم، وأنه خير منهم؛ فيهلك"(معالم السنن للخطابي:4/ 132).

وقَالَ أَبُو عُمَرَ بن عبد البر - رحمه الله- "هَذَا الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ ذَلِكَ الْقَوْلَ احْتِقَارًا لِلنَّاسِ وَازْدِرَاءً بِهِمْ وَإِعْجَابًا بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ ذَلِكَ تَأْسُّفًا وَتَحَزُّنًا وَخَوْفًا عَلَيْهِمْ، لِقُبْحِ مَا يَرَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ، فَلَيْسَ مِمَّنْ عُنِّيَ بِهَذَا الْحَدِيثِ"(الاستذكار: 8/ 549).

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ رَاضِيًا عَنْ نَفْسِهِ، مُعْجَبًا بِهَا، حَاسِدًا لِمَنْ فَوْقَهُ، مُحْتَقِرًا لِمَنْ دُونَهُ، وَيَكُونُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي مَاقِتًا لِنَفْسِهِ، مُوَبِّخًا لَهَا غَيْرَ رَاضٍ عَنْهَا (التمهيد، لابن عبد البر: 21/ 242).

وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ – رحمه الله – "وَكَفَى بِالْمُسْلِمِ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ أَخِيهِ"(الاستذكار: 8/ 550).

مالآت قول القائل "هلك الناس":

1.    أن الذي يسمع هذا الفهم؛ قد ييأس من رحمة الله؛ فيُلْحِد، فيهلك، والساحة الفكرية انتشر فيها ذلك بين الشباب.

2.    فقد الثقة في جهود العاملين لدين الله؛ فلا  يتعاون معهم أحدُ على البر والتقوى.

3.    شق عصا المؤسسات الدعوية بمقتها من أفرادها، والمحبين لها، والخروج عليها.

من أحكام الحديث:

1.    لا يجوز الحكم على عموم الناس بالشر والفساد ولو كان ذلك ظاهراً بينهم فاشيا فيهم؛ لأنه حكم بدون علم. وظن سوء بمن قد يكون في غمار الناس على خلاف ما عليه أكثرهم.

2.    لا يجوز لمن رأى الناس في حالة سيئة أن يقنطهم من رحمة الله، وإمكان تدارك أمرهم واصلاح حالهم.

توظيف معاني الحديث في حياة الدعاة:

1.    على الداعية أن يرشد المسلمين، ويعمل لإصلاح حالهم، وأن ينظر إليهم بعين الشفقة والحنان لا بعين الزراية والاحتقار؛ فإن الشفوق تدفعه شفقته إلى المبالغة في العناية بتتبع الأدواء واستقصاء أنواع العلاج.

2.    على الدعاة مرشدي المسلمين أن يعانوا أدواءهم بالعلاجات النافعة ويشخصوها لهم عند الحاجة بالعبارات الرقيقة المؤثرة، في رفق وهوادة مجتنبين كل ما فيه تقنيط أو تثبيط. وأن يعرفوهم بأنهم- وإن ساءت نواح من أحوالهم- فهنالك نواح ما تزال صالحة.

توظيف معاني الحديث في حياة المربين:

هذا الحديث أصل عظيم في التربية المبنية على علم النفسية البشرية؛ فإن النفوس عندما تشعر بحرمتها وقدرتها على الكمال؛ تنبعث بقوة ورغبة وعزيمة لنيل المطلوب. وعندما تشعر بحقارتها وعجزها تقعد عن العمل وترجع إلى أحط دركات السقوط.

فجاء هذا الحديث الشريف يحذر من تحقير الناس وتقنيطهم؛ وذلك يقتضي أن المطلوب هو احترامهم وتنشيطهم.

وهذا الأصل العظيم الذي دل عليه هذا الحديث الشريف يحتاج إليه كل مرب سواء أكان مربيًا للصغار أم للكبار، وللأفراد أم للأمم، إذ التحقير، والتقنيط، وقطع حبل الرجاء؛ قتل للنفوس نفوس الأفراد والجماعات وذلك ضد التربية، والاحترام والتنشيط وبعث الرجاء إحياء لها وذلك هو غرض كل مرب ناصح في تربيته.

فاللهم صل وسلم على هذا النبي الكريم العظيم الرحيم، الذي علَمْتَه ما لم يكن يعلم، وكان فضلك عليه وعلينا به عظيما، فكم من علوم وأسرار انطوت عليها أحاديثه الشريفة قد أتت على ما لم تعرفه البشرية إلا بعد حين، ولا عجب فهو الذي أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارًا.

والله من وراء القصد

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
الصدع بالحق… واجب العلماء الأول
السابق
الصناعة والصنائع ركائزٌ للحضارة وأدوات للتمكين

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع