البحث

التفاصيل

زيارة للمقبرة

الرابط المختصر :

زيارة للمقبرة

بقلم: د. منذر عبد الكريم القضاة

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلامُ على من لا نبي بعدهُ، وبعد

كم مرة زرت المقابر من قبل؟ هل سجلت تلك الزيارات في ذاكرتك أم أنك تحاول نسيانها؟

تعال أقص عليك نبأ زيارتي الأخيرة للمقبرة ....

فقد انشغلت في الأسبوعين الماضيين بزيارة مقبرة الهاشمية ثلاث مرات، وتقع هذه المقبرة في محافظة الزرقاء، وذلك لزيارة قبر أبي – رحمه الله - الذي توفي بتاريخ 19/11/2020م، وزيارة قبر ولدي عمر الصغير – رحمه الله - الذي فجعنا بوفاته يوم الإثنين بتاريخ 18/10/2010م أثر حادث سير مُؤسف وقع له وعمره لم يتعد أربع سنوات وأربعة أشهر.

وتُشرع زيارة القبور للاتعاظ بها وتذكُّر الآخرة شريطة أنْ لا يقول الزائر عندها ما يُغضب الرَّب سبحانه وتعالى كدعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم من دون الله تعالى، أو تزكية الميت، والقطع له بالجنة ونحو ذلك، والنساء كالرجال في مشروعية زيارة القبور؛ لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم- : "... فزوروا القبور" فيدخل فيه النساء، ومشاركتهن الرجال في العلِّة التي من أجلها شُرعت زيارة القبور: (فإنَّها تُرقُّ القلب، وتدمع العين وتذكّر بالآخرة) ، وفي السنوات الأولى لوفاة ابني كنا والعائلة نتعاهد زيارة القبر باستمرار،

لكنني اعترف وبألمٍ شديد أنني قد قصَّرت جداً في زيارة القبرين مُنذ مدَّة طويلة وخاصة قبر ابني عمر، وقد شغلنا بالعمل في السنوات الأخيرة خارج البلاد في مجال التدريس الجامعي على فترات وسنين مُتقطعة، وأمور أخرى لا مجال لذكرها هنا.

في الواقع خلال زيارتي الأخيرة وجدت أنَّ مقبرة الهاشمية تغيرت للأفضل عما سبق، وشُقَّت طرق في المقبرة لتسهيل وصول النَّاس إلى قبور موتاهم.

لكن في الواقع خلال هذه الزيارات وخلال تجوالي بين القبور فُجعت بحجم الإهمال لكثيرٍ من القبور من قبل أهالي الأموات؛ فقد غطَّت الحشائش القبور منذ سنوات طويلة، ومن القبور من سقطت شواهده، ومن القبور من غارت قواعده داخل الأرض، ومن القبور من تجد فيه فتحات كبيرة داخل القبر، ومن القبور من قد سوي تقريبا بالأرض، ومن القبور من اختفت الأسماء عن الشاهد فلا يمكن معرفة صاحبه.

وهذه المشاهد المؤلمة التي رأيتها في المقبرة أعادت لي في الذاكرة إلى ما يقرب من أربعة عشر سنة حيث صدر لي كتاب بعنوان: (المَسْألَةُ وَالجَوَابُ فِي تَسْلِيَةِ المُصَابِ فِيْمَا أشْــكَلَ عَليِهِ بِفَقْدِ الأَوْلادِ وَالأْحَبَابِ) كَتَبْتُهُ بَعْدَ أنْ مَاتَ وَلَدِي الصَغيرُ (عُمَرُ)

وأمضيت ما يقارب من خمسِ سنين في اعداده وتجهيزه ، وهو كِتَابٌ تَضَمَّنَ مَسَائلَ عِدّةً وَأجْوِبةً عَلَيْهَا، تَسْلِيةً لِكُلِّ مُصَابٍ بِفَقْدِ الأوَلادِ والأحْبَابِ، تَشْرَحُ صَدْرَهُ، وَتُخَففُّ عَلَيهِ خَطْبَهُ، وَتُعِينُهُ عَلَى تَجَاوُزِ مُصِيبَتِهِ، ومن المسائل التي تضمنها هذا الكتاب في الباب السابع منه وهو بعنوان: (الأحكام المتعلقة بجنائز الأطفال) المسألة العاشرة ، وكانت بعنوان ما هو الوجه الشرعي للدفن وبناء القبر، وتعليمه؟ ، وقد أجبت في هذه المسألة على عدة مسائل فرعية مهمة  منها  : كيفية بناء القبر بعد الدفن ؟ 

وكان الجواب على هذه المسألة على النحو الآتي: فإنَّه بعد الفراغ من الدفن يُسنُّ أنْ يُرفع القبر عن الأرض قليلاً نحو شبر، ولا يُسوّى بالأرض، وذلك ليتميز فَيُصَان ولا يُهَان؛ لحديث جابر -رضي الله عنه-: (أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم - أُلحد له لحدٌ، ونُصب عليه اللبن نصباً، ورفع قبره من الأرض نحواً من شبر) ([1]).

وقد فهمَ البعض من ذلك أنَّ مِنَ السنَّة إنْ يُسوَّى القبر بالأرض؛ فإنْ حدث هذا أصبح القبر مُمتهناً امتهان الأرض، وحتى لا يُمتهن، ويكون مميزاً لا يسوَّى بالأرض.  ([2])

ومن السنَّة أنْ يُجعل القبر مُسنَّماً([3])؛ لحديث سفيان التّمار، قال: رأيتُ قبرَ النبي – صلى الله عليه وسلم -  [وقبر أبي بكر وعمر] مُسنماً([4]).

وقد ذهب الجمهور إلى أنَّ الارتفاعَ (على القبر) المأمور بإزالته هو ما زادَ على التسنيم، ويبقى للقبر ما يُعرف به ويُحترم، وذلكَ صفة قبر نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقبر صاحبيه - رضي الله عنهما-، وقد ورد في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء على أنَّه: ( لا يجوز رفع القبور، إلا بقدر ما يُعرف أنَّ هنا قبراً، حتى يُحافظ عليه من المشي فوقه، أو قضاء الحاجة عليه). ([5]).

وورد في كتابي الاجابة على سؤال كيفية تعليم القبر؟

الجواب: ليس هناك خلاف بين العلماء حول مسألة تعليم القبر بعلامة، فيُعلَّم القبر بحجر، أو نحوه من الخشب؛ لحديث المطلب – وهو ابن عبدالله بن المطلب بن حنطب- رضي الله عنه - قال: (لما مات عثمان بن مظعون أُخرج بجنازته فدفن، أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - رجلاً أنْ يأتيه بحجر فلم يستطع حمله، فقام إليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وحَسَرَ عن ذراعيه، قال المطلب: قال الذي يخبرني عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : كأنَّي أنظرُ إلى بياض ذراعي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -   حيث حَسَرَ عنها، ثمَّ حملها فوضعها عند رأسه، وقال: " أتعلَّمُ بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي"  ([6]).

أمَّا الجواب عن مسألة الكتابة على القبر فكان:

عن جابر - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -   أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه [أو يزاد عليه]، [أو يكتب عليه]([7]).

[فإنَّ الكتابة على شاهد القبر والذي هو بمحل الحجر، أو الخشبة، أو العلامة التي يُعلِّم بها القبر طريقٌ إلى تعرُّف القبر بها، حتى لا يذهب الأثر ولا يمتهن، وفي أيامنا هذه الكتابة على شاهد القبر، لا بدَّ منها، وذلك بسبب كَثرة القبور على خلاف ما كان عليه الأمر قبل ذلك، وقد يصعب تعليم القبر بحجر أو نحوه، فقد تتشابه الأحجار وتضيع المعالم فتصعب معرفة القبر المراد زيارته والسلام والدعاء لصاحبه؛ فتصبح الحاجة إلى إباحة المحظور، ويكون التعليم بالكتابة وذلك لاختلاف وسيلة التعليم من زمان لآخر([8])].

قلت: [ولكن هنا بسبب تشابه القبور قد يُكتب على اللوح – شاهد القبر- للضرورة وللحاجة بقدر ما تتحقق به الغاية؛ للتعرف على القبر حتى لا يذهب الأثر، وبالحدود الضيقة، فيكتب اسم الميت وتاريخ الوفاة-مثلاً-، وبدون زيادات وإضافات لا داعي لها وبدون مغالاة وتعظيم لصاحب القبر، مثل كتابة شيء من القرآن، أو الشعر، أو الإطراء، أو المدح على جدران القبر، أو شاهده، فيعدُّ ذلك من الزينة المنهي عنها في الحديث – والله أعلم-].

وإليكم بعض الأمور المنهي عنها في بناء القبر وتدخل في باب تعظيم القبور المنهي عنه شرعاً:

1)  أن يكون القبر مُشرفاً، ولا يُبنى عليه أي نوع من أنواع البناء كالقباب تفخيماً وتعظيماً.

2)  رفع القبر أكثر من شبر وتبليطه بالرخام.

3)  تزيين القبر بأي نوع من أنواع الزينة كالسرج أو الإضاءة.

4)  بناء مقاعد على جوانب القبر للجلوس حوالي القبر عند زيارته.

5)  الكتابة التي يكون فيها تعظيم لصاحب القبر، وكتابة آية أو آيات على جدران القبر لما في ذلك من امتهان للقرآن، وانتهاك حرمته واستعمال في غير ما أنزل من أجله.

6)  تجصيص القبور.

7)  تلوين القبور بألوان خاصة، وهو ذريعة أنْ يتباهى الناس بهذا التلوين فتصبح القبور محل مباهاة.

8)  رش حبوب الذرة أو القمح على القبر لتأكل منه الطير.

وعلِّة التحريم هنا واضحة وهي النهي عن تعظيم القبور، الذي يؤدِّي إلى الغلو الواقع في الشرك، فتعبد إذا تطاول الزمن، وتصبح وسيلة مُفضية إلى عبادة من فيها من دون الله، فيكون ذلك منهم شركاً حرمه الله، ووعد بعدم المغفرة منه في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾ ([9])

وأسوق هنا بعض أقوال أهل العلم –باختصار شديد-في المسألة العاشرة من هذا الباب والتي وردت في كتاب أحكام الجنائز للعلامة الألباني – رحمه الله-:

1)   في مذهب الإمام أبي حنيفة – رحمه الله - يجب أنْ يكون تسنيم القبر قدر شبر، أو أكثر قليلاً ويُكره تجصيصه وتطيينه، وقد كره الإمام أبو حنيفة البناءَ عليه، وأنْ يُعلَّم بعلامة.

2)   قال الإمام محمد في الآثار: (أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال: كان يقال: ارفعوا القبر حتى يُعرف أنَّه قبر فلا يوطأ).

3)   كره أبو يوسف -رحمه الله- الكتابة على القبر؛ لأنَّ ذلك من باب الزينة ولا حاجة للميت إليها.

4)   في ظاهر مذهب الإمام مالك -رحمه الله- منع تسنيم القبور ورفعها وأنْ تكون لاطئة.

5)   قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: (وذهب الجمهور إلى أنَّ الارتفاع (على القبر) المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يُعرف به ويُحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقبر صاحبيه -رضي الله عنهما- ، وأما تعلية البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيماً وتعظيماً، فذلك يُهدم وَيُزال، فإنَّ فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبهاً بمن كان يُعظِّم القبور ويعبدها .([10])

6)    قال الإمام ابن حزم -رحمه الله-: (ولا يحلُّ أن يبنى القبر، ولا أن يُجصص، ولا أن يُزاد على ترابه شيء ويُهدم كلُّ ذلك).

7)    أما الكتابة، فظاهر الحديث تحريمها، وهو ظاهر كلام الإمام محمد، وصرَّح الشافعية والحنابلة بالكراهة فقط، وقال النووي – رحمه الله -  (5/298): (قال أصحابنا: وسواء كان المكتوب على القبر في لوح عند رأسه كما جرت عادة بعض الناس أم في غيره فكله مكروه لعموم الحديث).

وأختم هذه المسألة المتعلقة بالكتابة على القبر فتوى للشيخ الألباني -رحمه الله- قال فيها: (إذا كان الحجر لا يحقق الغاية التي من أجلها وضع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -   الحجر، ألا وهي التعرف عليه، وذلك بسبب كثرة القبور مثلاً، وكثرة الأحجار المعرّفة فحينئذٍ يجوز كتابة الاسم بقدر ما تتحقق به الغاية المذكورة، والله أعلم) . ([11])

ولعلنا في مسائل هذا الباب بينَّا هدي النبي – صلى الله عليه وسلم -  في موضوع الأحكام المتعلقة بالجنائز.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* منذر عبد الكريم القضاة؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. عضو رابطة علماء الأردن. مدير أوقاف محافظة الزرقاء الأسبق.



([1])(حديث حسن): رواه ابن حبان في (صحيحه) (2160) والبيهقي (3/410) وإسناده حسن. 

([2]) أحكام الجنائز ،للألباني، ص: (195)، أحكام الجنائز، محمد حسان، ص: (247).  

([3])   مسنماً: أي كظهر البعير.

([4]) (صحيح )أخرجه البخاري (3/ 198-199)، والبيهقي (4/3)، ورواه ابن أبي شيبة وأبو نُغيم في (المستخرج) كما في (التلخيص) والزيادة لهما.

([5]) فتوى رقم (2927) تاريخ 8/4/1400 هـ. 

([6])(حديث حسن): أخرجه أبو داود في الجنائز، باب في جمع الموتى في قبر، والقبر يُعلّم، وعنه البيهقي بسند حسن، في (السنن الكبرى) في كتاب الجنائز، باب إعلام القبر بصخرة أو علامة ما كانت (3/412). 

([7])(حديث صحيح): أخرجه مسلم (3/62) وأبو داود (2/71) والنسائي (1/284)  285، 286) والترمذي (2/155) وصححه، والحاكم (1/370) والبيهقي (4/4)، وأحمد (3/295، 332، 339، 399)، والزيادتان لأبي داود والنسائي، وللبيهقي الأولى. 

([8])  بتصرف يسير منّي، انظر هامش رقم (1+2) صفحة (133) من كتابنا المَسْألَةُ وَالجَوَابُ فِي تَسْلِيَةِ المُصَابِ فِيْمَا أشْــكَلَ عَليِهِ بِفَقْدِ الأَوْلادِ وَالأْحَبَابِ

([9])  سورة النساء، الآية: (48)

([10]) أحكام الجنائز، للألباني ص: (259-268). 

([11]) أحكام الجنائز ،للألباني، ص: (262).


: الأوسمة


المرفقات

التالي
تفكيك منظومات الاستبداد (٥٧): نداء إلى أمة محمد ﷺ.. خذوا على أيدي حكامكم
السابق
خيانة الأوطان الخنجر المسموم في صدر هذه الأمة

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع